فوضى الدماغ .. وصراعات النفوس …. بقلم : جمال عمر
الكاتب : جمال عمر
21 ديسمبر، 2024
blog, اخبار عامة, اراء ومقالات, الترفيه والفن والرياضة, التنمية والمشروعات القومية, الرياضة, الشئون الامنية, الشئون الدينية, الشئون العسكرية, الفكر والثقافة والعلوم, المقالات والرأي, سياسة, شئون, متنوعات, وزارات
230 زيارة

لست أدري هل ذلك شيئا مقصودا ، من تراتيب نظرية المؤامرة ، أم هي فوضى التعامل مع تكنولوجيا العصر ، ولكنها حقيقة لا تقبل الشك أننا أصبحنا نعاني بشدة من فوضى الدماغ ، وعدم القدرة على التركيز ، بسبب تعرض عقولنا لكم هائل من المعلومات المختلفة والمتضاربة يوميا ، بل قل على مدار الساعة ، وهل ذلك حقا فوق قدرات احتمالنا النفسية والعقلية ، أم ذلك تأثرا مقصورا على البعض مثل كبار السن ومن تخطوا مرحلة الشباب ، فما يحدث نراه واضحا في تفشي الفوضى الدماغية والنفسية بين الغالبية العظمى من البشر ، دون استثناء للسن أو البيئة أو المستوى الاجتماعي والثقافي ، ولست أدري هل حالة البلادة والتناحة المتفشية بين الناس ، هي النتاج الطبيعي لسيول المعلومات المتفجرة في العقول رغما عنها ، أم هي مبالغة مني ، في فهم ما يدور حولنا من أحداث الحياة وحركة حياة البشر ، أم بالفعل هي التطور الطبيعي والمنطقي للتعامل العشوائي مع مستويات جديدة من التكنولوجيا ، والتي لم نكن مستعدين لها وباغتت مجتمعاتنا دون سابق استعداد أو إنذار .

ولا شك أننا عقولنا ونفوسنا تتعرض يوميا لسيول وأعاصير من المعلومات ، بداية من فيديوهات التيك توك واليوتيوب وغيرها الكثير مما يحمل داخله كما مهولا من الملعومات العشوائية ، موجهة وغير موجهة ، إضافة لشبكات التواصل والتي تسمح للإنسان بالتواصل مع ملايين البشر من مختلف الثقافات والبيئات ، بجانب آلاف القنوات الفضائية وشبكات القنوات المشفرة ، ومرورا بأحاديث البشر حولنا وما تحمله من تنوع كبير في المفاهيم والتعاملات ، ووصولا للفشل المتفشي لقدرات التربية في البيوت ، والتي أفرزت لنا أجيالا غارقة في الفراغ النفسي ، والذي أصبح مخيفا ومدمرا بقوة لنفوس كثيرا من شبابنا ، بعدما فقد الكبار قدراتهم وأصبحوا فاقدين للسيطرة على نفوسهم وأحوالهم ، والنتيجة تراها في تعاملات البشر في الطرقات والأماكن العامة ، فمن المعتاد أن تجد من يعترض طريقك ماشيا أو في سيارتك ، وهو متعمدا تحويل وجهه عنك ، مراقبا لك بطرف عينه ، ومستمتعا بحيرتك ونجاحه في تعطيلك واستفزازك ، ثم متجهما ومتعجبا وربما مهاجما لك لو حاولت تنبيهه ، والأغرب أن تجد ذلك يتكرر من كثير من النساء (رموز الحياء) ، والأغرب أن تجده يتفشى بين الصغار حتى البنات تحت سن البلوغ ، وكأن هناك علم جديد اسمه (التنطع) يتسابقون في دراسته وممارسته وأنت لا تعلم .

لا شك أن ظاهرة التنطع والتناحة هي نتاج طبيعي ، ورد فعل منطقي ، لتربية سيئة لنفوس مريضة تعاني من الضعف والتهميش ، والتشتت والإحساس بالفشل والضآلة ، في محاولة لإثبات عكس ما يعانون منه ، ولذلك لابد وأن تتوقع ذلك من فئات بعينها مثل السائقين خاصة سائقي التوكتوك والميكروباس والنصف نقل ، ناهيك عن الباعة في الأسواق وموظفي الوزارات الحكومية الخدمية ، فالظاهرة تتفشى كالنار في الهشيم ، وكان هناك سباق محموم للبراعة في التناحة والتنطع على الغير ، وتتشابه هذه الظاهرة كثيرا مع سلوكيات الحيوانات الأليفة ، خاصة قطط العمارات العشوائية ، والتي سوف تجدها مستلقية أما بابك ، معترضة طريق دخولك وخروجك ، وكذلك كلاب الشوارع الضالة ، والتي سوف تعترض طريقك بلا سبب ، وسوف تجدها نائمة فوق سيارتك كأنها قد شاركتك فيها تعنتا وتنطعا بلا مبرر ، مع اختلاف الدافع بين حيوان يبحث عن الطعام والألفة ، وبين إنسان يبحث عن علاج ضعفه النفسي والأخلاقي على حساب إيذاء غيره واستفزازه .

وليس من العجيب أن أتذكر اعترافات أحد الشابات يوما في جلسة مساعدة نفسية (كوتشينج) ، أنها ظلت سنوات طويلة تتعمد استفزاز البشر من حولها بملابسها ، وزينتها أو مكياجها ، والمبالغة في إظهار مفاتن جسدها ، وكانت تتعمد استفزاز الشباب ، لتوقعهم في محاولة تحرش ، لتستمتع بمراقبة ما يناله من جزاء وعقاب سواء بلسانها أو بأيدي المجاملين والمعجبين والطامعين ، وكيف أنها رغم إدمانها هذه المتعة باستفزاز وعقاب الآخرين ، إلا أنها كانت تعاني دوما من تزايد كراهيتها لنفسها ، وتزايد رغبتها في عقاب نفسها ، بل والرغبة في عقاب أهلها ومن حولها ، حتى تحولت لمصدر قلق وإزعاج ومشاكل لكل من يعرفها ، ووصلت لمراحل متقدمة من الاكتئاب واليأس من الحياة ، وتلك حالة خاصة لمريضة التنطع والتناحة الإنسانية ، والتي قررت صاحبتها استخدام جمالها وأنوثتها ، وهي ليست حالة خاصة ، ولكنها حالة أصبحت عامة ومتفشية بين البنات والسيدات ولكنها بدرجات متفاوتة ، وتراها منتشرة في البنطلونات الضيقة بشراسة في طرقاتنا ، خاصة عندما يتزامل ذلك مع حجاب يدعي زورا أنها ملتزمة ، فالتناحة والتنطع هي مرض نفسي مزمن يصيب الإنسان ، نتيجة لانحراف نفسي تراكمي .

ولا أنكر أن هذه السلوكيات كانت تستفزني كثيرا بل وتغضبني أحيانا ، ولكنها اليوم ومنذ فترة أصبحت مسلية ومضحكة ، بل وحقل تجارب رائع لأساليب التفاعل البشري ، وذلك من منطلق .. (الخروج من الشرنقة) ، نعم .. فالخروج من الشرنقة هو عمل إبداعي نفسي ، يحتاج لتجربته ثم تكراره ، ثم احترافه لتشعر بالمتعة في ممارسته ، والخروج من الشرنقة معناه تجاوز المعنى الضيق واللحظي للمفاهيم والأحداث ، وفهم ممارسة حركة الحياة بمنطق مختلف ، بمعنى أنك لا يجوز ولا يصح لك أن تحول علاقاتك بالبشر لصراع أو تحدي وعداء ، ولكن .. حاول أن تحوله دوما لاحتواء وتفهم وتقدير لما يعانيه غيرك من الضعف والمرض النفسي ، فلو أنك صادفت كفيفا أو معاقا فلابد أنك سوف تساعده لعبور الطريق ، وبالتالي فالمتنطع ومفتعل التناحة هو مريض نفسي أشد من أية إعاقة ، ولو عاملته بلطف واحترام ، فمن المؤكد سوف يختلف رد فعله كثيرا ، وربما يتذكر أصله كإنسان ويعتذر لك بكل لطف وود ، فيكون تصرفك بداية في علاج مرضه بهدوء ، وتكون قد ساعدته في الاستيقاظ من غيبوبة نفسه .

ولا شك أنك لن تستطيع الخروج من الشرنقة في كل موقف ، ولكنك تحتاج للسيطرة على نفسك وتدريبها ، أولا تدريبها على الصمت تماما لو كنت منفعلا ، ثم ترجمة صمتك لكلمات جميلة مهذبة ولطيفة ، وبالتأكيد لن تستطيع فعل ذلك إلا لو كنت واعيا ومستقرا وهادئا ، وهو ما لن تستيع فعله ، إلا لو استطعت احتراف الهروب من هلع المعلومات وتكدس الأحداث بقليل من الصفاء النفسي والتأمل والتفكر في خلق الله ، وتفريغ شحنات القلق والتوتر في بداية يومك بقراءة لقليل من القرآن الكريم ، وختم يومك بركعتين في جوف الليل ، أو حتى منتصف النهار دون السقوط في وساوس الوسواس الخناس عن كل صلاة ، فأنت في حاجة أن تتخلص من كل ما يؤرق حياتك ، ولن يكون ذلك سهلا إلا لو أيقنت وتذكرت ، أنك جئت للدنيا وما معك شيئا من كل ما في حياتك ، وأنك ربما تغادر بعد دقائق أو مائة عام ، وأنت أيضا ستغادر عاريا بلا شيء ، ولن تأخذ منه شيئا ، وتتذكر أن كل ما يحدث في الدنيا هو بيد الخالق العظيم ، الذي خلقك من قبل ولم تكن شيئا مذكورا ، وأنه وحده صاحب الأمر والتدبير والقضاء ، وتذكر أنك لو أرضيته وطلبت رضاه بتصرفاتك فسوف يرضيك ويريح قلبك .

نعم .. ربما يكون ذلك صعبا عليك في البداية ، ولكنه سيكون سهلا لو تذكرت أنك لم يكن لك اختيارا في والديك ولا نوعك (ذكرا أم أنثى) ، ولا في شكلك ولا بيئتك ولا دينك ولا ظروف حياتك ، ولا اختيار لك في يوم مولدك ولا يوم وفاتك ، ولا زوجتك ولا أولادك ولا أحداث حياتك ، وعندما تتأكد من حقيقة كل ذلك ، لابد أن تسأل نفسك بأمانة ، إذا كنت لا اختيار لك في كل هذا ، فكيف تريد أن يكون لك اختيار في غدك ومستقبلك ؟؟ ، والأهم .. كيف تريد أن تغير حياة غيرك وأنت لا تملك تغيير حياتك ؟؟ ، ولا شك أنك عندما تصل لليقين في حقيقة حياتك سوف تعلم أنك لا تملك إلا النوايا وما تضمره في نفسك ، وهنا تتعلم أن الله يعطي عباده على قدر نواياهم ، فمن كانت نواياه خيرا لنفسه وغيره من البشر ، أجزل الله عطاءه له ، ومن كانت نواياه خيرا لنفسه فقط ، ربما يعطيه الله الكثير ، ولكنه يحرمه من الاستمتاع به ، فهو يحمله ويكنزه لغيره ، ولو لم يعطه شيئا مما يحلم به ، فقد منحه ما يستحقه ، ولو أعطى الله من نواياه شرا فهو يعطيه ليصلح له نفسه ، فإن لم ينتبه ليصلح نفسه وتعمد الإفساد ، فقد حكم على نفسه وظلمها ظلما كبيرا ، فيفتح الله بركته عليه في كل شيء ، حتى يأتي ربه وليس له على الله حجة ، فسبحانه وتعالى قال لملائكته { إن من عبادي من إن أغنيته لصلح حاله ، وإن منهم من أفقرته لصلح حاله ، فخلوا بيني وبين عبادي } .

ولو حدث وأسملت نفسك لله في الدنيا ، فسوف ترى عباده وخلقه يرؤية الله لهم ، وسوف تحب كل خلقه ، ليس لأنهم يستحقون الحب ، ولكن لأن خالقهم يحبهم جميعا سواسية ، ويحب من يحبهم ويكرم من يكرمهم ، فكل الخلق عياله وعباده وخلقه ، ولذلك يقسم رسول الله ثلاثا بقوله { والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، من لا يحب لأخيه ما يحبه لنفسه } ، وهي ليست دعوة للحب والتعاطف ، ولكنها دعوة للذكاء في التعامل مع الله في خلقه ، ولا أدعي أنك سوف تصبح ملاكا لا يخطيء ، ولكن سوف تذكر الله ، عندما تخطيء وسوف تستغفره ليغفر لك ، وسوف تحرص على ألا تخطيء مرة أخرى ، ولكنك سوف تخطيء مرارا وتكرارا ضعفا أو تفريطا أو إهمالا ، أو تقليدا لفتن الدنيا ولكنك سوف تتوب وتستغفر الحليم الستار ، الذي سترك في معصيتك ويغفر لك ذنبك ، ويبارك لك في رزقك وحياتك ، فيرضى عنك ، فيرضيك ويجبر خاطرك كلما جبرت خواطر عباده ، ولو بكلمة طيبة أو ابتسامة ، ولو أحبك الله لكتب لك القبول في الأرض ، وهدى نفسك للرضا والسعادة في الدنيا والآخرة ..

أخيرا .. لا يجوز أن نجعل من صعوبات الحياة سببا في سوء تعاملنا مع بعضنا البعض ، فنحن بشر من بني آدم المكرمة ، ولسنا من سلالة حيوانات متدنية ، خاصة عندما نتذكر أن مشاكل الحياة وصعوباتها قدر مكتوب على كل عباد الله وخلقه في الدنيا ، لقول الله تعالى .. {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ }البلد4 ، وبالتالي فكل خلقه يعانون من متاعب الدنيا ، لأن متاعب الدنيا ومشاكلها ، هي السبب الرئيسي الذي يدفع الناس للتطور والتقدم وإعمار الأرض ، وهي الدافع لتعاون البشر وتكاتفهم ، وتعاونهم لما فيه خير الجميع ، وهو ما ينساه ضعاف النفوس وخدام إبليس ، ويكفي ابن آدم أن يحرص على سلامة نفسه ونواياه ، والله عليم خبير بنفوس عباده ، والنفوس الطيبة السوية هي فقط التي تشعر بالسعادة والهدوء والاستقرار ، لأن النفوس جبلت على حب الخير .. {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ }العاديات8 ، ولا أمل لمخلوق في كون الله ، إلا بالخضوع لناموس الله في خلقه ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون …
جمال عمر
جزاك الله كل الخير و احبك الله و نصرك على كل من يعاديك
تحياتي و تقديري