فوضى الدماغ .. وصراعات النفوس …. بقلم : جمال عمر

لست أدري هل ذلك شيئا مقصودا ، من تراتيب نظرية المؤامرة ، أم هي فوضى التعامل مع تكنولوجيا العصر ، ولكنها حقيقة لا تقبل الشك أننا أصبحنا نعاني بشدة من فوضى الدماغ ، وعدم القدرة على التركيز ، بسبب تعرض عقولنا لكم هائل من المعلومات المختلفة والمتضاربة يوميا ، بل قل على مدار الساعة ، وهل ذلك حقا فوق قدرات احتمالنا النفسية والعقلية ، أم ذلك تأثرا مقصورا على البعض مثل كبار السن ومن تخطوا مرحلة الشباب ، فما يحدث نراه واضحا في تفشي الفوضى الدماغية والنفسية بين الغالبية العظمى من البشر ، دون استثناء للسن أو البيئة أو المستوى الاجتماعي والثقافي ، ولست أدري هل حالة البلادة والتناحة المتفشية بين الناس ، هي النتاج الطبيعي لسيول المعلومات المتفجرة في العقول رغما عنها ، أم هي مبالغة مني ، في فهم ما يدور حولنا من أحداث الحياة وحركة حياة البشر ، أم بالفعل هي التطور الطبيعي والمنطقي للتعامل العشوائي مع مستويات جديدة من التكنولوجيا ، والتي لم نكن مستعدين لها وباغتت مجتمعاتنا دون سابق استعداد أو إنذار .

ولا شك أننا عقولنا ونفوسنا تتعرض يوميا لسيول وأعاصير من المعلومات ، بداية من فيديوهات التيك توك واليوتيوب وغيرها الكثير مما يحمل داخله كما مهولا من الملعومات العشوائية ، موجهة وغير موجهة ، إضافة لشبكات التواصل والتي تسمح للإنسان بالتواصل مع ملايين البشر من مختلف الثقافات والبيئات ، بجانب آلاف القنوات الفضائية وشبكات القنوات المشفرة ، ومرورا بأحاديث البشر حولنا وما تحمله من تنوع كبير في المفاهيم والتعاملات ، ووصولا للفشل المتفشي لقدرات التربية في البيوت ، والتي أفرزت لنا أجيالا غارقة في الفراغ النفسي ، والذي أصبح مخيفا ومدمرا بقوة لنفوس كثيرا من شبابنا ، بعدما فقد الكبار قدراتهم وأصبحوا فاقدين للسيطرة على نفوسهم وأحوالهم ، والنتيجة تراها في تعاملات البشر في الطرقات والأماكن العامة ، فمن المعتاد أن تجد من يعترض طريقك ماشيا أو في سيارتك ، وهو متعمدا تحويل وجهه عنك ، مراقبا لك بطرف عينه ، ومستمتعا بحيرتك ونجاحه في تعطيلك واستفزازك ، ثم متجهما ومتعجبا وربما مهاجما لك لو حاولت تنبيهه ، والأغرب أن تجد ذلك يتكرر من كثير من النساء (رموز الحياء) ، والأغرب أن تجده يتفشى بين الصغار حتى البنات تحت سن البلوغ ، وكأن هناك علم جديد اسمه (التنطع) يتسابقون في دراسته وممارسته وأنت لا تعلم .

لا شك أن ظاهرة التنطع والتناحة هي نتاج طبيعي ، ورد فعل منطقي ، لتربية سيئة لنفوس مريضة تعاني من الضعف والتهميش ، والتشتت والإحساس بالفشل والضآلة ، في محاولة لإثبات عكس ما يعانون منه ، ولذلك لابد وأن تتوقع ذلك من فئات بعينها مثل السائقين خاصة سائقي التوكتوك والميكروباس والنصف نقل ، ناهيك عن الباعة في الأسواق وموظفي الوزارات الحكومية الخدمية ، فالظاهرة تتفشى كالنار في الهشيم ، وكان هناك سباق محموم للبراعة في التناحة والتنطع على الغير ، وتتشابه هذه الظاهرة كثيرا مع سلوكيات الحيوانات الأليفة ، خاصة قطط العمارات العشوائية ، والتي سوف تجدها مستلقية أما بابك ، معترضة طريق دخولك وخروجك ، وكذلك كلاب الشوارع الضالة ، والتي سوف تعترض طريقك بلا سبب ، وسوف تجدها نائمة فوق سيارتك كأنها قد شاركتك فيها تعنتا وتنطعا بلا مبرر ، مع اختلاف الدافع بين حيوان يبحث عن الطعام والألفة ، وبين إنسان يبحث عن علاج ضعفه النفسي والأخلاقي على حساب إيذاء غيره واستفزازه .

وليس من العجيب أن أتذكر اعترافات أحد الشابات يوما في جلسة مساعدة نفسية (كوتشينج) ، أنها ظلت سنوات طويلة تتعمد استفزاز البشر من حولها بملابسها ، وزينتها أو مكياجها ، والمبالغة في إظهار مفاتن جسدها ، وكانت تتعمد استفزاز الشباب ، لتوقعهم في محاولة تحرش ، لتستمتع بمراقبة ما يناله من جزاء وعقاب سواء بلسانها أو بأيدي المجاملين والمعجبين والطامعين ، وكيف أنها رغم إدمانها هذه المتعة باستفزاز وعقاب الآخرين ، إلا أنها كانت تعاني دوما من تزايد كراهيتها لنفسها ، وتزايد رغبتها في عقاب نفسها ، بل والرغبة في عقاب أهلها ومن حولها ، حتى تحولت لمصدر قلق وإزعاج ومشاكل لكل من يعرفها ، ووصلت لمراحل متقدمة من الاكتئاب واليأس من الحياة ، وتلك حالة خاصة لمريضة التنطع والتناحة الإنسانية ، والتي قررت صاحبتها استخدام جمالها وأنوثتها ، وهي ليست حالة خاصة ، ولكنها حالة أصبحت عامة ومتفشية بين البنات والسيدات ولكنها بدرجات متفاوتة ، وتراها منتشرة في البنطلونات الضيقة بشراسة في طرقاتنا ، خاصة عندما يتزامل ذلك مع حجاب يدعي زورا أنها ملتزمة ، فالتناحة والتنطع هي مرض نفسي مزمن يصيب الإنسان ، نتيجة لانحراف نفسي تراكمي .

ولا أنكر أن هذه السلوكيات كانت تستفزني كثيرا بل وتغضبني أحيانا ، ولكنها اليوم ومنذ فترة أصبحت مسلية ومضحكة ، بل وحقل تجارب رائع لأساليب التفاعل البشري ، وذلك من منطلق .. (الخروج من الشرنقة) ، نعم .. فالخروج من الشرنقة هو عمل إبداعي نفسي ، يحتاج لتجربته ثم تكراره ، ثم احترافه لتشعر بالمتعة في ممارسته ، والخروج من الشرنقة معناه تجاوز المعنى الضيق واللحظي للمفاهيم والأحداث ، وفهم ممارسة حركة الحياة بمنطق مختلف ، بمعنى أنك لا يجوز ولا يصح لك أن تحول علاقاتك بالبشر لصراع أو تحدي وعداء ، ولكن .. حاول أن تحوله دوما لاحتواء وتفهم وتقدير لما يعانيه غيرك من الضعف والمرض النفسي ، فلو أنك صادفت كفيفا أو معاقا فلابد أنك سوف تساعده لعبور الطريق ، وبالتالي فالمتنطع ومفتعل التناحة هو مريض نفسي أشد من أية إعاقة ، ولو عاملته بلطف واحترام ، فمن المؤكد سوف يختلف رد فعله كثيرا ، وربما يتذكر أصله كإنسان ويعتذر لك بكل لطف وود ، فيكون تصرفك بداية في علاج مرضه بهدوء ، وتكون قد ساعدته في الاستيقاظ من غيبوبة نفسه .

ولا شك أنك لن تستطيع الخروج من الشرنقة في كل موقف ، ولكنك تحتاج للسيطرة على نفسك وتدريبها ، أولا تدريبها على الصمت تماما لو كنت منفعلا ، ثم ترجمة صمتك لكلمات جميلة مهذبة ولطيفة ، وبالتأكيد لن تستطيع فعل ذلك إلا لو كنت واعيا ومستقرا وهادئا ، وهو ما لن تستيع فعله ، إلا لو استطعت احتراف الهروب من هلع المعلومات وتكدس الأحداث بقليل من الصفاء النفسي والتأمل والتفكر في خلق الله ، وتفريغ شحنات القلق والتوتر في بداية يومك بقراءة لقليل من القرآن الكريم ، وختم يومك بركعتين في جوف الليل ، أو حتى منتصف النهار دون السقوط في وساوس الوسواس الخناس عن كل صلاة ، فأنت في حاجة أن تتخلص من كل ما يؤرق حياتك ، ولن يكون ذلك سهلا إلا لو أيقنت وتذكرت ، أنك جئت للدنيا وما معك شيئا من كل ما في حياتك ، وأنك ربما تغادر بعد دقائق أو مائة عام ، وأنت أيضا ستغادر عاريا بلا شيء ، ولن تأخذ منه شيئا ، وتتذكر أن كل ما يحدث في الدنيا هو بيد الخالق العظيم ، الذي خلقك من قبل ولم تكن شيئا مذكورا ، وأنه وحده صاحب الأمر والتدبير والقضاء ، وتذكر أنك لو أرضيته وطلبت رضاه بتصرفاتك فسوف يرضيك ويريح قلبك .

نعم .. ربما يكون ذلك صعبا عليك في البداية ، ولكنه سيكون سهلا لو تذكرت أنك لم يكن لك اختيارا في والديك ولا نوعك (ذكرا أم أنثى) ، ولا في شكلك ولا بيئتك ولا دينك ولا ظروف حياتك ، ولا اختيار لك في يوم مولدك ولا يوم وفاتك ، ولا زوجتك ولا أولادك ولا أحداث حياتك ، وعندما تتأكد من حقيقة كل ذلك ، لابد أن تسأل نفسك بأمانة ، إذا كنت لا اختيار لك في كل هذا ، فكيف تريد أن يكون لك اختيار في غدك ومستقبلك ؟؟ ، والأهم .. كيف تريد أن تغير حياة غيرك وأنت لا تملك تغيير حياتك ؟؟ ، ولا شك أنك عندما تصل لليقين في حقيقة حياتك سوف تعلم أنك لا تملك إلا النوايا وما تضمره في نفسك ، وهنا تتعلم أن الله يعطي عباده على قدر نواياهم ، فمن كانت نواياه خيرا لنفسه وغيره من البشر ، أجزل الله عطاءه له ، ومن كانت نواياه خيرا لنفسه فقط ، ربما يعطيه الله الكثير ، ولكنه يحرمه من الاستمتاع به ، فهو يحمله ويكنزه لغيره ، ولو لم يعطه شيئا مما يحلم به ، فقد منحه ما يستحقه ، ولو أعطى الله من نواياه شرا فهو يعطيه ليصلح له نفسه ، فإن لم ينتبه ليصلح نفسه وتعمد الإفساد ، فقد حكم على نفسه وظلمها ظلما كبيرا ، فيفتح الله بركته عليه في كل شيء ، حتى يأتي ربه وليس له على الله حجة ، فسبحانه وتعالى قال لملائكته { إن من عبادي من إن أغنيته لصلح حاله ، وإن منهم من أفقرته لصلح حاله ، فخلوا بيني وبين عبادي } .

ولو حدث وأسملت نفسك لله في الدنيا ، فسوف ترى عباده وخلقه يرؤية الله لهم ، وسوف تحب كل خلقه ، ليس لأنهم يستحقون الحب ، ولكن لأن خالقهم يحبهم جميعا سواسية ، ويحب من يحبهم ويكرم من يكرمهم ، فكل الخلق عياله وعباده وخلقه ، ولذلك يقسم رسول الله ثلاثا بقوله { والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، من لا يحب لأخيه ما يحبه لنفسه } ، وهي ليست دعوة للحب والتعاطف ، ولكنها دعوة للذكاء في التعامل مع الله في خلقه ، ولا أدعي أنك سوف تصبح ملاكا لا يخطيء ، ولكن سوف تذكر الله ، عندما تخطيء وسوف تستغفره ليغفر لك ، وسوف تحرص على ألا تخطيء مرة أخرى ، ولكنك سوف تخطيء مرارا وتكرارا ضعفا أو تفريطا أو إهمالا ، أو تقليدا لفتن الدنيا ولكنك سوف تتوب وتستغفر الحليم الستار ، الذي سترك في معصيتك ويغفر لك ذنبك ، ويبارك لك في رزقك وحياتك ، فيرضى عنك ، فيرضيك ويجبر خاطرك كلما جبرت خواطر عباده ، ولو بكلمة طيبة أو ابتسامة ، ولو أحبك الله لكتب لك القبول في الأرض ، وهدى نفسك للرضا والسعادة في الدنيا والآخرة ..

أخيرا .. لا يجوز أن نجعل من صعوبات الحياة سببا في سوء تعاملنا مع بعضنا البعض ، فنحن بشر من بني آدم المكرمة ، ولسنا من سلالة حيوانات متدنية ، خاصة عندما نتذكر أن مشاكل الحياة وصعوباتها قدر مكتوب على كل عباد الله وخلقه في الدنيا ، لقول الله تعالى .. {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ }البلد4 ، وبالتالي فكل خلقه يعانون من متاعب الدنيا ، لأن متاعب الدنيا ومشاكلها ، هي السبب الرئيسي الذي يدفع الناس للتطور والتقدم وإعمار الأرض ، وهي الدافع لتعاون البشر وتكاتفهم ، وتعاونهم لما فيه خير الجميع ، وهو ما ينساه ضعاف النفوس وخدام إبليس ، ويكفي ابن آدم أن يحرص على سلامة نفسه ونواياه ، والله عليم خبير بنفوس عباده ، والنفوس الطيبة السوية هي فقط التي تشعر بالسعادة والهدوء والاستقرار ، لأن النفوس جبلت على حب الخير ..   {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ }العاديات8 ، ولا أمل لمخلوق في كون الله ، إلا بالخضوع لناموس الله في خلقه ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون …

جمال عمر

عن الكاتب : جمال عمر

شاهد أيضاً

هل أنت .. من خراف القطيع ؟؟ …. بقلم : جمال عمر

كثير من الناس أو قل الغالبية العظمى يعشق أن يكون فردا في القطيع ، رغم …

تعليق واحد

  1. جزاك الله كل الخير و احبك الله و نصرك على كل من يعاديك
    تحياتي و تقديري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *