لا شك أن المتعة هي لحظات من الإحساس بنشوة اللذة نتيجة الحصول على شهوة أو رغبة للنفس ، وهذا لا يحدث مطلقا لنفس مكتفية أو في حالة رضا (سعادة مستقرة) ، لأن التواجد في حالة الرضا هو قمة ما يسعى له الإنسان من السعادة ، وعندها يبح كل شيء في الحياة له لذته الخاصة ، وتصبح النشوى أمرا طبيعيا ومتجدد ، فأنت مثلا لو اضطرتك الظروف للسير في صحراء لساعات طويلة تحت لهيب الشمس ووهجها ، ستكون في قمة المتعة لو حصلت على زجاجة مياه مثلجة ، وتبلغ نشوة اللذة بالتضلع بالماء البارد ، بينما لا قيمة لنفس الزجاجة وأنت قابع في مكتبك تحت نسيم التكييف ، وكذلك كل متعة في الدنيا تأتيك تشعرك بلذة قدر حرمانك منها وضعفك واحتياجك لها ، فبلا ضعف وبلا احتياج وبلا حرمان لا قيمة لمتعة ولا شعور بلذة النشوى .

ولذلك لا يتزوج الشاب فتاة هو يستطيع أن يحصل منها على ما يريد دون عناء ، كما يقول الأمريكان .. (لماذا تشتري بقرة ما دمت تستطيع الحصول على حليبها مجانا) ، ويظل ابن آدم غارقا في متوالية هندسية من أحلام تتحول إلى أماني ومنها إلى آمال ثم إلى أهداف يسعى لتحقيقها ، سعيا وراء لذة المتعة ونشوتها بتحقيق هدف كان يوما حلما ، فتتوق النفس لتحقيق الهدف ، فتكد وتسعى من أجله ، حتى إذا حصلت عليه قفزت النشوة لقمتها للحظات ، ثم .. تفتر سخونة المتعة ، ثم يدخل في مرحلة فقدان الشغف تدريجيا ، يدخل به في مرحلة الملل والضجر ثم الإهمال والترك فالمواجهة وتبادل الاتهامات ثم الكراهية والفراق ، وتلك مراحل أي علاقة بين ذكر وأنثى بنيت على أساس خاطيء ، بمعنى كان أساسها الوحيد وهدفها لذة المتعة ، سواءا جسدية أو مادية .
ولا شك أيضا .. أن من أخطر ما يسقط فيه الإنسان هو فقدان شغفه للحياة ، فعندما تفقد النفس الشغف تنزلق لمنحدر الزهد في كل ما في الحياة ، وينتهي بها المطاف بالموت وهي على قيد الحياة ، وهناك فارق كبير بين الزهد الذي يمارسه أتباع الصوفية بإرادتهم ، وبين الزهد التلقائي لفقدان الشغف ، فالصوفية بزهدها هي أحد صور الانحراف النفسي للإنسان عن مراد الله تعالى من البشر ولكن بإرادة الإنسان المغيب أو الجاهل ، والتي تفشت من بعد عهد نبي الله نوح على يد بعض شياطين بني إسرائيل لإضلال البشر عن سبيل الله ، وانتقلت للمسيحية في صورة الرهبنة ، ثم جاء الإسلام ليقضي على هذا الانحراف تماما ، لدرجة أنه سبحانه نهانا نهيا صريحا (أن ننسى نصيبنا من الدنيا) .. فيقول سبحانه وتعالى .. {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }القصص77 ، ثم لامنا على فكرة الزهد والتصوف بقوله تعالى .. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }الأعراف32 ، وأمرنا أن نتخذ من رسول الله أسوة حسنة (قدوة طيبة) ، ورسول الله كان رافضا وناهيا عن الزهد في الدنيا ، بل ورد على بعض مرتكبي بعض أفعال الزهد (الصوم – ترك النكاح – الامتناع عن أكل اللحم) .. بقوله .. ، : “أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني“. ، لأن إفقاد النفس الشغف عمدا ، هو عمل يفسد النفس ويدمرها ويحولها لنفس شيطانية ، تستحل كبائر الله تعويضا عن تركها ما أحل الله للنفس .

وفكرة قيام النفس بالتعويض عن فقدان ما تصبو إليه قصرا ، هو سلوك نفسي فطري بعيدا عن مصطلحات علوم النفس الأكاديمية ، وتراها واضحة في سلوكيات المنقبات في أي مكان ، فهي تريد أن تثبت أنها موجدة لإحساسها بالحرمان من حق فطري لها ، فتجد المنتقبات أعلى النساء صوتا في أي مكان ، وأحدهن أخلاقا ، وأكثرهن جدالا ، ولابد أن تتوقع منهن أي تصرف يلفت الانتباه ، تماما مثل طفلك الذي يشعر بالنقص فيعوضه بسلوك حاد ومتطرف ليلفت الانتباه إليه ، فالنفس لا تستقيم مع حرمانها من حقوقها الفطرية ، وابنتك التي تعاملها معاملة سيئة ومهينة ، سوف تنفجر يوما ما لتعوض ما حرمتها منه ، ولعلنا رأينا كثيرا من سلوكيات نساء فارس أو الخليج خارج بلادهن ، فالنفوس فطرها الله على اليسر لا على العسر ، وهذا يختلف تماما عن تربية الأبناء بالثواب والعقاب ، كما يختلف أيضا عن تدريب الرجال ليصبحوا مقاتلين ، ويختلف أيضا عن تدريب ابنك على مواجهة الحياة والتأقلم مع حكمة ناموس الخالق في خلقه ، بضرور التحمل والصبر والجلد عند الشدائد ، ولذلك تعتاد النفس دوما تتحمل مصاعب الحياة بسلاسة وقبول حسن ، عندما يكون لديها أهداف بعينها تحلم بالوصول إليها ، وتمثل للنفس أحلاما وآمالا في مستقبل حركة حياتها .
![]()
وهنا لابد من التوقف قليلا عند أهم وأخطر ما يهدد النفس البشرية ، ويوقعها في الاتحراف عن السلوك المستقيم ، بل ويجعل من الصعب تقويمها ، وهو الوقوع في شغف محرم تستسيغه النفس وتصبح غير قادرة على الاستغناء عنه ، مهما كان خطيرا ومدمرا ، فالنفس تحتاج لوجود الشغف داخلها لفعل أي شيء ، بداية من الاستيقاظ لصلاة الفجر ، والذهاب للعمل ، ثم العودة للبيت ، ثم لممارسة الحياة الاجتماعية اليومية ، دون أن يكون هناك توقف للتفكر والتدبر لتصحيح المسار ، فإذا فقدت شغفك لصلاة الفجر من أجل رضا ربك ، فقد خسرت كثيرا ، لأنك فقدت إيمانك بأن ربك يريدك ، وأنه المدبر والرازق والمقدر وأنك لابد أن تلبي نداءه مفضلا لقاءه على النوم لتكسب رضاه ، ولو فقدت شغفك للذهاب للعمل من أجل أن تؤدي عملا فتكسب منه مالا حلالا ، ووفقدت شغفك أن تجيد عملك لترتقي وتستحق التطور ، فأنت في بداية طريق خسارة عملك وبالطبع خسارة دينك لأنك سوف تستحل أجرا حراما ، ولو فقد شغفك للعودة لبيتك لسوء علاقتك بأهل بيتك ، فأنت تقترب بشدة من خسارتهم أو التنازل عنهم ، ولو فقدت شغفك للاستمتاع ببمارسة علاقاتك الاجتماعية اليومية ، فأنت سريعا ما سوف تصبح زبونا مستديما لأحد المقاهي ، ولو فقد شغفك لتختلي بنفسك لتراجع فيها تصرفاتك وقيمك وأقوالك وأفعالك ، فأنت قد ركبت الطريق خلف القطيع ، فلا تلومن إلا نفسك لو خسرت كل شيء .
ومن العجيب أن الغالبية العظمى من البشر عندما يفقد شغفه في مجال فإنه سرعان ما يستبدله ويستعيض عنه بدافع آخر مزيف كبديل لشغفه ، فالموظف الذي لا يرى في اتقانه لعمله وسيلة لكسب رضا ربه ، سوف يتقن العمل أو أعمالا أخرى بعينها يتقاضى عليها رشوة .. ، أو يتقاضى عليها تشجيعا ماديا أو معنويا ، والانسان الذي يفقد شغفه للعودة لبيته والتمتع بممارسة حياته الاجتماعية ، سوف يجد شغفه في علاقة محرمة يرتاح لها ويغذي بها قدرته على الاستمرار ، وكثيرا ما يقع الإنسان ضحية لإدمان أي شيء سواءا كانت مخدرات أو علاقات محرمة أو رشاوى أو بلطجة يثبت لنفسه بها أنه حي وقادر ، وبالتالي فعلاج الانحراف يبدأ بتصحيح الأخطاء النفسية والمادية ، التي دفعتك للركون لشغف بديل ، وذلك لن يحدث ما دمت لا تستطيع أن تخلوا بنفسك لمراجعة أسلوب حياتك وأخطائك وسبل تقويمها ، من منطلق يقينك بأنك في رحلة اختبارات على الأرض سوف تنتهي عاجلا ، وكل ما تدبره وتخفيه في صدرك من نواياك وما تفعله هو مسجل عليك بدقة ، وسوف تحاسب عليه حسابا عسيرا أو يسيرا كما يشاء ربك .

ولا شك أن اختلاف الزمان والمكان لهما تأثيرات كبيرة على مظاهر النفوس وباطنها عند التعامل مع حركة الحياة فمنذ عشرات القرون كان منتهى حلم الإنسان هو امتلاك دار وبضعة أغنام أو ماشية أو بعضا من الإبل لساكني الصحراء ، ولو ارتقت حالته قليلا فامتلك عربة يجرها الخيل أو حتى البغال ، فذلك يجعله من الأغنياء وأصحاب السلطة والسطوة ، ولكن اليوم .. هذا الرجل نفسه صاحب العربة التي يجرها حمار أو حصان أو بغل ، وبعد قرون قلية وبعد اكتشاف السيارة ، أصبح يسمى (عربجيا) ، وامتلاكه للعربة يجعله من الطبقات الدونية والمهمشين في الحياة ، وأخيرا .. أصبح امتلاك سيارة من موديل مر عليه أكثر من خمسة سنوات ، هو دليل على ضيق الحال ، وربما اعتبره بعض الأغنياء فقرا يستحق الصدقة ، وكذلك كان أجدادك الأغنياء يشترون عبيدا مخصصين للتهوية عليهم بمراوح من ريش النعام ، فأصبحت المراوح الكهربية بعدها ملكا للأغنياء والباشوات ، وأخيرا في عصر الديجتال أصبح التكييف سلعة متاحة للفقراء ومتوسطي الدخل ، وهو ما جعل الفقراء في عصرنا الحالي أكثر رفاهية من ملوك وسلاطين حكموا بلادا وشعوبا منذ عقود ليست بالبعيدة .

ونتيجة للتقدم السريع في العقود الماضية للتكنولوجيا ، وما استتبعه من تقدم رهيب في التكنولوجيا في السنوات القليلة الماضية ، قد جعل الأمر جنونيا ، وأصبح لدينا تقسيمات للبشر ، فهؤلاء هم أهل مصر ، وهم متقدمون كثيرا عن الصعايدة والفلاحين ، ولكنهم لا شيء بجوار (أهل ايجيبت) أصحاب عشرات ومئات الملايين ، وأهل إيجبت أنفسهم أصبحوا فقراء بل وشحاتين بجوار (التوب إيجبشاين) ، وهولاء هم أصحاب عشرات المليارات ، وهؤلاء تراهم في تصريحات أبناءهم المستفزة ، مثل تلك البنوتة التي تتقاضى مصروفا أسبوعيا (ثلاثون ألف دولار) ، ولست أدري بالقطع كيف ببنوتة شابة تنفق مليون ونصف جنيه أسبوعيا بعيدا عن احتياجاتها الفطرية الضرورية ، ولكن هؤلاء أهل (التوب ايجبشاين) ، وتلك أرزاق الله ، وليس غريبا ولا عجيبا أن نعرف أنه كلما ارتفعت مستويات الثراء والرفاهية ، كلما ابتعد أصحابها سريعا عن حقيقة السعادة برغم إدمانهم لمختلف أشكال المتع ، بل ونسب الانحرافات والإحباط والجفاء والجرائم والانتحار تزداد كذلك كلما زادت الرفاهية ، لماذا .. ؟؟ .. فقط لأنهم تجاوزوا الخطوط الحمراء لطبيعة حركة حياة البشر كما فطرها الخالق العظيم . فكيف هي الحياة كما فطرها سبحانه وتعالى .. ؟؟؟

اقلام مصرية موقع ووردبريس عربي آخر


{ .. وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ }الأعراف156 صدق الله العلي العظيم جزاك الله كل الخير و بارك فيك و وفقك