الاتزان الكوني والشفرة الإلهية (14) … بقلم : جمال عمر
الكاتب : جمال عمر
يوم واحد مضت
اراء ومقالات, التعليم والبحث العلمي, الشئون الدينية, المقالات والرأي, متنوعات
155 زيارة

توقفنا سابقا عند قولنا أن ميزان الله تعالى في حركة حياة خلقه هو أدق مما تتخيله عقولنا الضعيفة المحدودة ، وقلنا أنك لو إنك قطعت ورقة من شجرة ، أو حتى خطفت نظرة (خائنة الأعين) لا تلقي لها بالا ، أو قلت كلمة (آه) واحدة ، هذا الحدث التافه الصغير سوف يتغير تبعا له أحداث العالم أجمع ، فكل شيء يحدث مهما صغر قدره هو حتما يشارك في صناعة الأحداث بعده ، وذلك لأن ناموس (قوانين) الكون مؤلف من فوتونات متزاحمة ومترابطة ومصفوفة في نظام كوني بديع ، فكلمة تقولها اليوم لا تلقي لها بالا ، لابد وأن تكون جزء من صناعة تاريخ البشرية من بعدك ، ولذلك قضى ربك بأن كل كلمة وحركة وسكنة سيئة يترتب عليها شرا في الدنيا ، يكتب لك بها سيئات مستمرة حتى بعد وفاتك ما دام أثرها مستمرا ، تماما مثل الصدقة الجارية التي يكتب لك بها حسنات متجددة بعد وفاتك ، ولذلك أمرنا سبحانه أن نقول الحسن من القول .. { .. وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً .. }البقرة83 ، وأن نقول السديد من القول ليصلح لنا به أعمالنا .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً }الأحزاب70 ، 71 ، ولا نستصغر شيئا خيرا كان أو شرا ، فنحن محاسبون على كل شيء كبيرة وصغيرة .

واستكمالا لحركات النفس البشرية في المثال المحلول الذي استعرضه لنا سبحانه وتعالى في سورة (يوسف) ، ما زلنا متوقفين عن قوله تعالى .. إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ{4} قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ{5} ، فنبي الله يعقوب قد نصح ولده (يوسف) ألا يقص رؤياه على إخوته تحسبا لحسد إخوته له وخوفا من كيدهم له بالسوء ، وهنا إعلان عن فطرة النفوس عندما تستسلم لفطرتها بالأمر بالسوء ، ووقوعها في الحقد والحسد وهو ما يفتح الباب للنفس أن تتآمر على هو من أفضل منها ، كنتيجة مباشرة لجهل النفوس بحقيقة عدالة قدر الله ورزقه لعباده ، ثم اقرارا لحقيقة ثانية لا تقل خطورة وهي أن الشيطان يسول للإنسان أن يحقد ويكيد لغيره ، ويستجيب للشياطين أصحاب النفوس المريضة والضعيفة والبعيدة عن ذكر الله ضعيفة الإيمان حتى ولو كان أصحابها أبناء نبي وتربوا في بيت النبوة ، فكل نفس مرهونة بنوياياها ونزعاتها وخطاياها .

ثم ينتقل سبحانه وتعالى ليعلمنا حقيقة جديدة عن حركات النفوس فيقول سبحانه على لسان نبيه يعقوب .. { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } يوسف6 ، وهذه الحقيقة تقول أن كل ما تره أثناء وجودك خارج جسدك للنوم فهو حقيقة ، ولكن يتوقف نوع هذه الحقيقة على حالة نفسك ومكان ذهابك كنفس ، ومن هذه الحالات أن تكون نفس صافية شفافة نقية ، فيسمح الله لك أن ترى أشياء من مستقبل حياتك أو مستقبل آخرين ، وتلك الحالة تسمى بالرؤيا الصادقة ، وهى جزء من ست وأربيعن جزء من النبوة ، كما يقول خاتم المرسلين في حديثه الصحيح ، وهنا نتوقف ونتسائل كيف ترى شيئا من المستقبل ، وهل المستقبل قد حدث بالفعل ، ونقول (نعم) مستقبلك قد حدث من قبل حتى أن تولد وتدخل الدنيا في هذا الجسد ، وهو ما قاله سبحانه في سورة السجدة .. {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ }السجدة5 ، وهنا عجبا غفلنا عن بلاغ الله لنا بأن كل ما يحدث على الدنيا كبير أو صغير حتى الكلمة والهمسة قد كتبت منذ خمسمائة سنة ، وينزل الحدث حيا صوتا وصورة من الإمام المبين نزولا حتى يصل الأرض فيحدث ، وتلك الرحلة نزولا تستغرق (500 سنة) بحسابات الزمن على الأرض ، ثم يعود الحدث بمجرد حدوثه صعودا (عروجا) ليتمم البلاغ بتمام الحدوث في رحلة عروج تستغرق خمسمائة سنة أخرى ، فيكون زمن رحلة أي حدث (أمر) هو ألف سنة بحساباتنا على الأرض .

وبالتالي فخلال رحلة نزول الحدث (الأمر) أو خلال رحلة صعوده (العروج) ، من الممكن أن تراه بعض النفوس أثناء وجودها خارج أجسادها (للنوم) ، وتسمى تلك الرؤية رؤيا صادقة ، وهي رؤيا مباحة فقط للأنبياء ، وبالتالي فلاعجب أن ترى الأنبياء حقائق الأشياء ومستقبل البشر من حوله ، بل وترى ما يغيب عن عامة الناس حوله ، مثلما كان عيسى ابن مريم معجزا بين الناس في عصره ، ومثلما كان موسى وكان محمد معجزين بالنسبة لمن عاصرهم ، خاصة في حقيقة نفوس البشر ، فرسول الله كان يعرف الصادق من الكاذب والمؤمن من المشرك والمنافق ، ولكنه ما كان له أن يصرح إلا بالذي يسمح به الله تعالى ، حتى لا يختل توازن الحياة ، وبالتالي فكل ما يحدث على الأرض بين الأحياء هو سيناريو كتبه وقدره سبحانه ، ونحن فقط نعيشه وننفذه تماما مثل الممثلين في مسرحية سابقة الإعداد ، ولا يملك مخلوقا أن يغير حرفا أو حركة أو سكنة مما قدر الله أن يحدث ، حتى الكلمة تقولها قد كتب عليك أن تخرج من فمك .

وهنا يتبادر للعقل سؤالا خطير ، إذا كان الله قد كتب علينا كل ما يصدر منا ، فكيف ولماذا يحاسبنا وعلى أي شيء يحاسبنا سبحانه وتعالى ، ولا شك أن صاحب السؤال قد جهل أو تغافل عما قضى به سبحانه ، فسبحانه وتعالى يحاسبنا على نوايانا وليس على أفعالنا ، وهو قوله تعالى .. {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }المدثر38 ، والنفوس لا تكسب ولا تملك شيئا سوى النوايا ، ولذلك يقول صلوات ربي وسلامه عليه .. { إنما الأعمال بالنيات ولكل امريء ما نوى } ، فأنت تنوي الفعل وهو خطيئة ورغبة نفس ، فيمنعك قدر الله مرة ومرات ، ولا يكتب عليك به سيئة ، بل على العكس إذا نويت ولم تفعل كتب لك به حسنة ، رغم أن قدر الله هو الذي منعك ، فإذا أذن الله لك أن تفعله كتبه عليك سيئة واحدة ، وإذا نويت الخير كتبت لك به حسنة واحدة ، وإذا أذن الله أن تفعلها كتبت لك بها عشر حسنات ، وهنا نرى أن الله يعاملنا بقمة الرحمة وليس بالعدل ، فالعدل الوحيد هو في كتابة حسنة بكل عمل فيه خير ، بينما الحالات الثلاثة الأخرى يعاملنا ربنا بالرحمة بل بالفتفضل علينا ، ولذلك كلما أحسن ابن آدم نواياه وما تضمره نفسه كلما أحسن الله عمله وما يجريه على يديه ، فأنت من تصنع بيديك نوعية عملك بنواياك ، ولذلك يقول سبحانه .. {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }البقرة284 .

وفي نفس الإطار نتوقف عند الأرزاق … والتي كثيرا ما يهتم الناس بها ولا يكلون ولا يملون من الدعاء والتضرع لله من أجلها ، وينسون ما هو أهم من التضرع والدعاء ، وهو اليقين في الله ، فكيف تدعو الله وأنت تشك أن الله سيؤتيك ما تطلبه منه ، فالله لا يقبل الشك ولا يقبل أن يجربه عبده ، وبالتالي فسبحانه لا يرضى بالنفوس ضعيفة اليقين بالله ، وصاحبة النويا المهزوزة والتي تساوي ما بين قدرة الله وبعض خلقه ، ولا يرضة بالنفوس المشركة التي تظن أن هناك مع الله من يستطيع أن يضر أو ينفع أو يرزق أو يمنع الأرزاق ، فالله لا يغفر أن يشرك به ولا يقبله من عبده ، وهو ما يجعل كثير من المؤمنين يرتكبون خطيئة الشرك بالله فعليا في تعاملاتهم في الدنيا ، بل ويثبت الله ذلك بآيات عن المؤمنين المشركين وهم المؤمنون بوجود الله وقدرته وملتزمون بالفروض والمناسك ربما أفضل من غالبية خلقه ولكنهم مشركون بالله بظنهم أن أرزاقهم يمكن أن يتحكم بها بشرا ، ولذلكك يقول فيهم سبحانه وتعالى .. {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ }يوسف106 ، فهم مؤمنون ولكنهم مشركون وذلك هو سر الحياة الصعبة التي يعيشها كثير من المسلمين عبر التاريخ وحتى يومنا هذا ، ويبدو أننا ننسى ما أخبرنا به صلوات ربي وسلامه عليه بأن الله قد يغير قدره لبعض عباده لو كان يقينهم بالله قويا ، فيعطي عبده ما يطلب قائلا لملائكته { يا ملائكتي أقضوا حاجة عبدي ، فقد غلب يقينه قدري } ، فيقينك في الله وحسن ظنك بالله دوما يسبق قدر الله فيعطيك ما أن واثق أن الله سيعطيك إياه .

ولا شك بالطبع أن شكك ولو مرة في قدرة الله ، أو نسيانك أن كل شيء بيد الله قد يعاقبك الله به لسنوات ، مثلما عاقب الله نبيه يوسف عندما نسي ربه وطلب من رفيقه بالسجن أن يذكره عند الملك ، وسجلها سبحانه عليه بقوله تعالى .. وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ{42} ، وتلك كانت خطيئة يوسف الثانية ، والأولى كانت عندما طلب من ربه أن يصرف عنه كيد النسوة قائلا .. { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ{33} ، وخطأه هنا أنه رأى ألسجن أحب إليه فهو يرضى بالسجن بديلا عن الخطيئة ، ولو أنه طلب من ربه بيقين خالص أن صرف عنه كيدهن دون ذكر قبوله السجن ، لأعطاه الله ما يطلبه ، ولذلك ترك الله أمره للبشر ليسجنوه بعدها وفي ذلك قال تعالى .. ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ{35} ، ولذلك ما أكثر من نجره على نفوسنا من سوء في دنيانا ، فتجد بعض الناس تقول لمرضاها (جعلني الله فداك) ، وكأن يساوم الله أن يشفي العزيز عليه ولو بمرضه ، فيمرضه الله كما طلب ، لأنه أساء الأدب مع الله ، وربما ظن أن السوء هو أمر واقع لا محالة ولا بأس أن يصبه هو بديلا عمن يحبه ، وتلك جهالة وغباء في التعامل مع الله يكون نتيجتها دوما سوءا على فاعلها بجهل ، لأن ناموس الله في خلقه مبني على اليقين وحسن الظن بالله ، ولو في جميع خلقه لأن خلقه خاصعين له ومقاديرهم بيديه سبحانه .

أخيرا .. نتوقف هنا عن اليقين وحسن الظن بالله وهما أفضل ما تضمره نوايا الإنسان ، والتي تضمن له ألا يقع في الشرك ، ولا يقع في الغباء في التعامل مع الله ودنياها ، فميزان الحياة الطيبة يحرسه جنود اليقين وملائكة حسن الظن بالله ، خاصة وأنه سبحانه يقول { أنا عند ظن عبدي بي ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر } ، ويبقى لنا رحلة موازين النفوس البشرية في سورة يوسف والتي توضح كثيرا نوازع وحالات وأمراض النفس وعلاجاتها التي نغفل عنها ونتجاهلها منذ أكثر من أربعة عشرة قرنا من الزمان ، وهو ما سوف نستعرضه لاحقا …
جمال عمر