تأملت طويلا سلوكيات البشر في حركة حياتهم ، وكنت أعجب من كم المتناقضات التي تجتاح النفوس البشرية ، حتى صابني بعض من الحكمة ، والتي تعني ببساطة “فهم ناموس الخالق في حركة الحياة” ، فالحكمة هبة من الخالق سبحانه وتعالى ، يؤتيها من يشاء ، فخالق الكون وواهب الحياة في كونه يقول .. {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }البقرة269 ، وبرغم أن الحكمة قد يحاول الإنسان أن يتعلمها إلا أن وصف الإنسان بالحكيم لا يطلق إلا على من وهبه الله إيهاها ، فقد تتعلم شيئا من الحكمة فتحفظه وتفهمه وتدرك معانيه وأبعاده ، فتروي عنه وتشرحه وتعلمه لغيرك ، ولكنه أبدا .. لن يصبح جزءا من مفاهيم نفسك الفطرية تتصرف تلقائيا تبعا له ، إلا لو وهبك الله إياها يقينا راسخا تراه واضحا في حركة الحياة من حولك في كل حركة وسكنة .

وعندما يهبك الله الحكمة فسوف ترى في تناقضات أخلاق وتصرفات البشر حولك كثيرا من الخير مهما كانت غريبة ومرفوضة على المدى البعيد ، تماما مثلما ترى سلوكيات الرفض المبدئي وسوء الظن من عامة الناس لكل ما هو حكومي صادر من الدولة متفشيا بين العامة ، فتدرك أنه يمثل ظاهرة صحية ، تثبت أن هذا المجتمع رغم غرقه في سلبيات أخلاقية وعادات مجتمعية فاسدة ، إلا أنه غير راض عنها ويرفضها ، ويعرف أن “سوء الحكم ورجاله” في عقود مضت كان سببا مباشرا في تدهور أخلاقياته كشعب ، وبالتالي فهو يعاقب من كان سببا فيها برفضه ورفض كل ما يأتي منه ، بل ويؤكد هذا أن المجتمع مستعد للتنازل عن سلبياته ، لو تأكد أن الدولة قد انصلح حالها وعاد لها ضميرها وأصبحت حريصة على مصالح ومستقبل شعبها ، وهو ما ترى عكسه تماما في الغرب وخاصة في أمريكا ، حيث تجد الجميع منصاع وخاضع بلا تفكير لشهواته ورغباته المباشرة بلا ضمير أو حياء ، وترى هذا واضحا في مفردات اللغة وأقوالهم المشهورة وأمثالهم الخاصة المشوهة بألفاظ جنسية أو قذرة في جميع مستويات المجتمع بداية من إدارة الدولة وحتى حواري ومواخير بروكلين وبارات تكساس ونيومكسيكو ، وتراه جليا لدى أي مواطن عندما ينقلب حيوانا لا يعرف سوى شهواته لمجرد غياب سطلة الدولة عنه ولو لدقائق ، بدليل ما يقوله ويفعله شخص مثل “ترامب” علنا وبلا أي حياء أو خجل على جميع المستويات ، الشخصي أو العائلي أو القومي أو حتى الدولي .

فالحكمة في أبسط مفهوم لها هي “فهم ناموس الخالق في حركة الحياة” ، والتي لا ترتبط مطلقا بقدور العلم وعدد الشهادات ولا المال ولا السلطة ولا الخبرة ولا أي معايير أخرى يمتلكها الإنسان ، فقدور البشر يحددها سبعة معايير هي { المال – السلطة – الشهرة – العلم – الخبرة – الأخلاق – الحكمة } ، ويندرج الدين بمفهومه القاصر لدينا تحت بند الأخلاق ، فرسولنا جاء ليتمم مكارم الأخلاق ، وتعتبر الحكمة أعلى مراتب المعايير الإنسانية ، مهما اختلف الزمان والمكان والبشر ومعطيات حياتهم ، لأن الحكمة تغني صاحبها عن التورط والسقوط في التجربة ليخرج منها بالخبرة وإثبات الحقائق والنواميس ، وبالتالي تتحكم في أفعاله وردود أفعاله تجاه حركة الحياة من حوله ، وينفع بها غيره سواءا من المعاصرين له أو من يأتي بعده .

ولا شك أن الحكمة هي أعلى وأقدر وأعظم الصفات بل هي الوحيدة التي تستطيع التحكم في سلبيات حركة حياة البشر لو توافرت ، خاصة وأن حاجة البشر لها كبيرة وهامة لتحقيق الاستقرار والأمان وضمان التطور والتقدم في مهمة عبوديتهم الجليلة لله ، والتي خلقهم الله من أجلها وهي “إعمار الأرض كخلفاء لله عليها” ، ولذلك قدر سبحانه وأرسل فيهم من يعلمهم الكتاب والحكمة استجابة لدعوة رسول الله إبراهيم عليه السلام وذكرها في كتابه العزي بقوله .. {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ }البقرة151، وتعتبر الحكمة ضرورة حتمية للبشر لأن الله قد منح بني آدم صفات فطرية عظيمة وخطيرة لتعينهم على إتمام مهمتهم ، وهذه الصفات تحتاج لضبط إيقاعها وتوجيهها ، وترشيد استخدامها حتى لا تكون سببا في فناءه وتدمير الإنسان لنفسه وجنسه وفشله في مهمته ، وعلى رأسها صفة الإبداع أو بمعنى أوضح “الرغبة والقدرة على الإتيان بالجديد” .
فالإبداع “الإتيان بالجديد” هي الرغبة الفطرية الأميز والأخطر ، حيث يولد ابن آدم ولديه رغبة وشهوة راسخة في فعل أشياء لم يفعلها غيره ، ولولا وجود هذه الصفة في ابن آدم ، لاستمرت حياة الإنسان بدائية كما بدأت ، مثل كل الحيوانات والمخلوقات الأخرى ، فلن ترى مخلوقا آخر يبني ويطور قدراته وإمكانيات حياته غير الإنسان ، ولذلك فهذه الصفة الفطرية “الإبداع” هي الفارق الأهم والأكبر بين الإنسان وسائر المخلوقات على الأرض ، وهي التي مكنت له أن يكون سيدا على الأرض ومن فيها ، وهي التي مكنته من تطوير حركة حياته للأفضل ، وهي أيضا التي مكنته من استمرار وتصاعد سيطرته على الأرض ومن فيها ، وبدونها ما كان للبشر مطلقا أن يكونوا خلفاء لله على الأرض .

ولا شك أن روعة صفة الإبداع الفطرية “الإتيان بالجديد” ، تجعل من سوء استخدامها هو أخطر ما يسقط فيه البشر ، وهو ما يعرفه إبليس وشياطينه أكثر من الإنسان نفسه ، ولذلك سعى إبليس واجتهد في استغلال الإنسان بدفعه لسوء استخدام هذه الصفة لأقصى مدى ، فأول ما سقط فيه ابن آدم عبر تاريخه هو تزويره لكل ما ينزله الله له من كتب ورسالات ، فاختفت التوراة وأخرجوا التلمود ، واختفى الإنجيل وجاءوا بأناجيل عديدة ، ثم هجروا القرآن وما فيه من علوم ، وأغلقوا أبواب الفهم والاجتهاد فيه ، رغم أن الله لامهم وعاتبهم أكثر من سبعين مرة على عدم استخدام عقولهم لفهم القرآن وعلومه بقوله تعالى { أفلا تعقلون ، أفلا يعقلون ، أفلا يتفكرون ، أفلا يتدبرون ، افلا يتفقهون } ولكنهم أساءوا فهم الدين وحصروه في آيات الفروض والحدود التي لا تتجاوز 3% من عدد آيات القرآن ، بل وادعوا زورا أنها فقط هي الدين ، وانقسم المسلمون مثل باقي الأمم لأكثر من السبعين فرقة وجماعة ، رغم علم المسلمين أن الفرق والجماعات هي شرك صريح بالله ، وهو ما يقرأونه ويحفظونه من من سورة الروم بقوله تعالى .. { .. وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ{31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ{32} ، وقوله تعالى في سورة الأنعام لرسوله الكريم .. {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }الأنعام159 ، فسوء استخدام الإنسان لصفة الإبداع كان له الأثر الأكبر في تزوير مفاهيم دستور حياتهم أو ما أسموه الدين بمفهومهم القاصر له .
ولا شك أن سوء استخدام صفة الإبداع قد امتد من بعد تزوير مفهوم الدين إلى كثير من تفاصيل حركة حياة البشر ، فتحت شعار الإبداع ظهرت التقليعات بإبداعات الموضة والتي أثرت تفشى العري والفواحش ، واعتبره البعض إبداعا وفنا مقدرا ومحترما ،وسنوا له قوانينا لحماية وجوده وانتشاره ، بل ذهب البشر بسوء الاستخدام لمستويات متدنية بلغت أحقر كثيرا من الحيوانات ، فرأينا البشر وهم يحترفون الشذوذ ، ويبجلونه ويعتبرونه حرية وإبداعا ، وهو ما لم تتدنى لمستوياته الحيوانات ولا الحشرات ولا أقل المخلوقات وأدناها ، ومن قبله وصل سوء الاستخدام لهذه الصفة أن استحل الإنسان دماء وأعراض وثروات ومقدرات بعضهم بعضا ، وتستروا خلف شعارات وقيم وهمية منحوها القدسية زورا وضلالا باسم الدين تارة وباسم الحرية والديموقراطية تارة أخرى .

بل أبسط وأغرب ما مارسه ابن آدم من سوء استخدام صفة الإبداع ، كان سوء استخدامه لنفسه فيما لم يخلق له ، وهو ما نراه متصاعدا من دعوات إخراج المرأة للعمل رغم ما تعانيه كل دول العالم ومجتمعاته من بطالة الرجال المتزايدة حتى في الدول المتقدمة ، متجاهلين النتائج المباشرة لخروج المرأة للعمل ، من فساد البيوت وفساد تربية الأجيال ، وفساد استقرار البيوت وتفشي العلاقات المحرمة ، وتدني مستويات الأخلاق ، وانهيار المجتمعات ، وكل ذلك رغم الاعتراف الدائم والمؤكد بأن المرأة لا يمكن تعويض غيابها عن البيت بأي وسيلة ممكنة ، وأن تكاليف استبدالها باهظة بل وتكلف البشرية أكثر من 50% من عائدات الإنتاج سنويا ، ورغم أن ما وصلوا له بالعلم والدراسة قد أقره الله في كل الأديان ، ولكن .. يظل إبليس مسيطرا على العقول والقلوب والأهواء ، ويظل ابن آدم غافلا وغارقا في استمتاعه بسوء استخدامه لصفة الإبداع ، وذلك فقط لغياب الحكمة عن العقول والقلوب .
بل ومن الغريب أن غياب الحكمة قد دفع بعض البشر لخداع بعضهم بعضا ، متجاهلين أن سقوط وتدمير أي شعب أو أمة من البشر هو تدمير للبشرية جميعا وانتقاص من قيمتهم جميعا ، بل ومن الغريب محاولة بعض البشر “جهلا بحكمة الله وقدره بين خلقه” أن يطرح فكرة تحديد النسل كحل للمشكلة الاقتصادية الموجودة أو المتوقعة ، رغم علم المؤمنون والمسلمون خاصة أن خلق النفوس ومنحها الحياة في جسد بشري هي قدرة الله ومشيئته فقط ، ورغم علم البشر جميعا أن القوى البشرية هي أهم ركائز التنمية وأخطرها ، وأن محاولة العبث بتحديد النسل سوف يتم دفع ثمنها باهظا بانقراض الأمم / مثلما تعاني اليوم نفس الدول الاسكندنافية التي طبقته منذ عقود مضت للخروج من الأزمات الاقتصادية فإذا بها اليوم تعاني من انقراض شبعها الأصلي وتلهث خلف هجرة البشر إليها ، وكذلك رغم علم بعض المسلمين “بالوراثة” أن مقادير النفوس ووجودها في الحياة لا يملكها إلا الخالق العظيم ، وكفاهم أن الله قال للرجال في معرض حديثه في سورة البقرة { .. فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ .. }البقرة187 ، ولم يقل ما تريدون أو ترغبون ، فالله ليس منتظرا لرغبة إنسان أن يكون له ولد أو لا يكون ، فكلها مقادير وقدور ، { والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ، بل {إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} ، وتلك أحد صور غياب الحكمة الهامة .

اقلام مصرية موقع ووردبريس عربي آخر


جزاك الله كل الخير و جعلنا الله و إياكم من ذوي الحكمه البالغه بالخير و العطاء مع ا ق تحياتي