الاتزان الكوني والشفرة الإلهية (12) … بقلم : جمال عمر

توقفنا سابقا عند قولنا .. أن الشفرة الإلهية هي الحافظة للاتزان الكوني ، وهي صاحبة الكلمة الأخيرة في حركة حياة كل مخلوقات الله ، رغم أننا لا نرى من تلك المخلوقات إلا النذر القليل ، بل إننا لا نكاد ندرك من مخلوقات الله إلا على قدر حواسنا الضعيفة جدا ، والمحدودة بمشيئة الله على قدر ما نحتاجه لتنفيذ مهمة الإعمار للأرض والتي خلقنا الله من أجلها ، وقلنا أن ذلك .. أن الله منحنا قدرة على الانفتاح الفكري لفهم واستيعاب حقائق خلق الكون وما فيه من مخلوقات ، ولكن باعتبارات قدرة الله وليس باعتبارات قدرة خيالنا على تصوره ، وهو ما يساعدنا فيه الله سبحانه وتعالى بآيات كتابه العزيز ، والتي أهملناها وتجاهلنا فهم معانيها ، وصدقنا تخاريف وخيالات البشر ، واستدرجتنا شهواتنا ورغباتنا فعميت علينا الحقائق ، خاصة حقيقة أن كل أرزاق الله لمخلوقاته مقدرة ومكتوبة ولا حيلة فيها ، وذلك تبعا لأسرار خلق الله للنفس التي تغافلنا عنها فضللنا كثيرا .

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ  إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) العنكبوت – اجمل واروع الصور  الاسلامية والدينية 2025

ومما لاشك فيه أن الأرزاق هي معطيات الله لعباده ، وأن المال هو أقل هذه الأرزاق ، وهذه المعطيات مقدرة ومكتوبة من قبل بدء حياة أي إنسان على الأرض ، ولا حيلة فيها ولا قدرة لمخلوق على تغييرها ، لأن هذه المعطيات نفسها هي مواد اختبارات الله لعباده (جميع خلقه) ، ولعل أهم أسباب تقدير الله لها المسبق ، أنها مقدرة على قدر ما ينصلح بها أحوال النفوس ، وبالتالي ما يصلح أحوال البشر ولا يفسدها ، كما أن تقديرها المسبق يثبت (تثبيت) أحد أهم المتغيرات المؤثرة على مستقبل البشر ، وذلك ليمنحهم فرصة الحرية في اختياراتهم ونواياهم المحاسبون عليها ، ولو كان كل إنسان يملك تغيير مقادير رزقه ، لفسدت أحوال البشر والدنيا ، لأن التحكم في الأرزاق ومعطيات الله لعباده سوف تحول البشر لأشباه الألهة ، والعياذ بالله ، فلو بسط الله الرزق لعباده أو جعل الرزق بيد عباده لبغوا في الأرض ، وهو ما جعل فرعون (مثلا) يقول لرعيته (أنا ربكم الأعلى) و (وما أريكم إلا ما أرى) ، وهو ما كرره مثلا (مرسي العياط) عندما تولى حكم مصر فظن أنه لا محاسب له ولا راد لحكمه في المصريين ، فأذله الله ونزع الملك منه قبل أن يفيق من سكرة وصوله له .

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ… | My Blog

ولو توقفنا عند مفهوم الأرزاق ، فسوف نتذكر أن الأموال والثراء هو أضعف وأقل أرزاق الله لعباده ، كما أن الأرزاق الفردية لكل شخص هي المستوى الأدنى (الأقل) لأنواع أرزاق الله ، فالرزق الجماعي لكل فئة من البشر هو الأهم والأخطر ، فالحقبة الزمنية التي يولد فيها الإنسان هي من الرزق ، لأن ميلادك اليوم في زمن المحمول يختلف كثيرا عن ميلادك منذ عقود في زمن الحلزونة والعربة الكارو والحنطور ، والبيئة التي تولد فيها هي من الرزق ، لأن مولدك في بيئة زراعية أو صحراوية يختلف كثيرا عن بيئة سواحلية أو صناعية ، وكذلك مولدك في شرق آسيا يختلف عن مولدك في غرب أوروبا ، والمستوى الفكري والثقافي من الرزق ، لأنك لو ولدت مسيحيا أو يهوديا يختلف كثيرا عن مولدك مسلما أو ملحدا ، والمستوى الاجتماعي والأدبي من الرزق ، فمولدك إبنا لملك أو وزير يختلف كثيرا عن مولدك لأب يتسول أو يجد قوت يومه بالكاد والكدح ، والمناخ من الرزق فلو ولدت في بلاد الصقيع يختلف كثيرا من مولدك في وسط أفريقيا أو جنوب آسيا ، والعقل الجمعي للبشر من حولك هو أيضا من الرزق ، فمولدك في وسط شعب أوروبي يختلف كثيرا عن مولدك في قبيلة أفريقية أو قبائل هضبة التبت ، وأخيرا فالمستوى العلمي والتكنولوجي أيضا هو من أبرز أنواع الرزق .

مَشروع حِّفظَ الَقرآن الَكَريمْ - 🌟🔰التفسـير الميسـر للآية 🔰 🌟 📖‏  بِســــْـم الله ِالرَّحْمَنِ الرَّحِيم 📖 ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ  خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ  لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ

ولو توقفنا قليلا عن المستوى العلمي والتكنولوجي ، فسوف نرى كم السفاهة وضيق الأفق وضعف العقول لدينا ، عندما نصر مثلا أن قدماء المصريين كانوا بدائيين ولا يعلمون شيئا من العلوم المتطورة والتكنولوجيا ، وبعض الحمقى يصرون أنهم قد بنوا الأهرامات بجر صخورها وتحميلها بالحبال وسخرة العبيد وتلك الصور الهزلية التي اعتادوا حفرها في العقول ، والعجيب أننا نقف عاجزين عن فهم قدراتهم على تصنيع كثير من القطع الأثرية والتي لا نستطيع أن نصنع مثلها اليوم بكل ما لدينا من تطور على الأرض ، وهو ما نجده جليا في آثار توت عنخ آمون المذهلة ، ولكن سوف نتوقف عند آيات عجيبة لم نهتم بمعناها وتجاهلنا مفاهيمها ، مثل قوله تعالى عبارة .. { آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً } ، وهي عبارة تكررت مع أربعة من أنبياء الله وهم (يوسف – لوط – سليمان – موسى) ، فمن يخبرنا هو الخالق العظيم ، مبدع كل شيء في الكون ، وعطاياه على قدر قدرته وجلاله ، فكيف يؤتي الله بشرا مكلف من عنده (الحكم والعلم) ، ولا يكون هذا الحكم عظيم الشأن ، ولا يكون هذا العلم أكبر من أي علم يستطيع أن يصل إليه البشر .

تفسير ففهمناها سليمان وكلا اتينا حكما وعلما - سورة الأنبياء الآية 79

ولو تذكرنا جيدا أن اليهود قد زوروا التاريخ وتعمدوا أن يخفوا حقائق كبيرة ، على رأسها أن نبي الله سليمان وأباه نبي الله داوود كانا مصريين ولم يكونا من اليهود ، وكانا من ذرية إبراهيم وأسحاق ويعقوب ، وأن يعقوب لم يكن يهوديا ، وما كان اسمه اسرائيل كما زور اليهود ذلك ليمنحوا أنفسهم نسبا لإبراهيم كذبا وبهتانا ، والأهم أن العلوم التي آتاها الله يوسف وسليمان على سبيل المثال ، كانت علوما متطورة وجبارة ولم يصل إليها البشر حتى اليوم ، بل من العجيب أن نتغافل عن حقيقة أن بناة الأهرام في مصر القديمة ، كانوا موحدين ويعبدون الله الواحد وسجلوا على جدران معابدهم حالات (السجود لله على الأذقان) والتي لم تسجل في أي حضارة سابقة ، وهي حالة سجلها القرآن العظيم بقوله ..  {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً }الإسراء107 ، بل أن سبحانه وتعالى أوضح لنا أن هؤلاء الذين سجدوا للأذقان كانوا أهل علم ، آتاهم الله العلم من قبل ، فكيف يؤتي الله علومه لبشر ، وهو الخالق العظيم بديع السماوات والأرض ، ثم ندعي زورا وبهتانا أنهم كانوا بدائيين أو لا يملكون العلوم المتقدمة .

وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ  تَكُن تَعْلَمُ 113

وهنا نتوقف ونتدبر حكمة ناموس الله في خلقه ، فالله يمنح علومه للبشر على فترات وحقب زمنية ، حتى إذا جاء من بعدهم من يضل وينسى ويشرك بربه ويكفر ، نزع الله منهم علومه وجعلهم يعودون لنقطة البداية ليبدأوا رحلة الحياة والكد والكدح من جديد ، ثم يعيد الكرة للبشر ويمنحهم علومه على قدر ما يصلح حالهم ولعلهم يعتبرون أو لربهم يرجعون ، وهو ما نحن في تراتيب مراحله اليوم ، حيث بدأنا سلسلة التصاعد العلمي بإذن من الله ، ولو لم نعتبر ونخضع بعلومنا لناموس الله ، فسوف يفني بعضنا بعضا ، وربما أفنينا صور الحياة على الأرض ، فتعود الأرض لتبدأ من جديد أو ربما تكون هي النهاية لاستخلاف بني آدم على الأرض ، ليأتي الله بقوم أو خلق جديد ، وهو ما سبق وذكرنا به سبحانه عدة مرات بقوله تعالى .. { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ }فاطر16 ، 17 ، فسبحانه .. { .. وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }النحل8 ، وقادر على أن يستبدلنا بمن هم أفضل منا .. { .. وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }محمد38 .

وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لايكونوا أمثالكم

ومن الغريب أننا كمسلمين نغفل عن آية في منتهى الخطورة والأهمية ، يقول فيها الخالق العظيم .. {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ }الأنعام133 ، يقطع الله في هذه الآية الطريق عن كل خيال أو تصور ، فسبحانه ينذرنا بأنه سوف يذهبنا ويستخلف من بعدنا على الأرض ما يشاء من مخلوقاته ، والعجيب أنه سبحانه يذكرنا ما نغفل عنه دوما ، وهو أننا جئنا للدنيا وأجسادنا جاءت نتاج من ذريات قوم آخرين سبقونا وكانوا مختلفين عنا ، فنحن بني آدم قد جئنا من ذرية البشر ، والبشر هم مخلوقات صاحبة البشرة (الجلد) ، وأصحاب البشر جاءوا من ذرية (الإنس) ، والذين كانوا في بداياتهم بلا بشرة (بلا جلد) ، فأجسادنا اليوم هي أحدث تطور لأجساد الإنس على الأرض ، ولكننا نعلم أن الأجساد التي نركبها ونستخدمها ليست سوى (مطية) ، ندخلها لنسيطر عليها ، ونتعامل بها على الأرض (لنحيا بها على الأرض) ، ونعلم أيضا أننا مجرد نفوس ، وأن النفس هي المهيمن والمسيطر وصاحبة القرار والمحاسبة على معطيات حياتها ، وأنها تدخل الجسد وتغادره باستمرار ويوميا ، حتى تغادره بعد انتهاء الأجل (المدة المقررة للنفس مع هذا الجسد بعينه) بلا عودة لنفس الجسد مرة أخرى ، ولذلك يبقى السؤال هل النفوس أيضا لها تطور عبر التاريخ ، أم هي فقط تزداد ميراثا تاريخيا من التجارب والخبرة بتكرار الحياة بدخولها لأجساد مختلفة بمعطيات مختلفة في بيئات وظروف مختلفة ؟

التوزيع الطبيعي (Gaussian (Normal distribution | مدونة علم البيانات

ولا شك أن دورات تكرار الحياة على الأرض خاضعة لناموس الخالق في خلقه ، حيث تبدأ كل حياة بداية ضعيفة ثم تزداد قوة تدريجيا حتى تصل لقمة قوتها ثم تبدأ رحلة الانحدار ثم الانهيار ، تماما مثل حياة الإنسان وأي مخلوق على الأرض ، وذلك ما مثلناه بما نسميه (منحنى جاوس) ، وبالتالي فقد وصلت أمم من قبلنا لقمم الحضارة العلمية والتكنولوجية ، والتي لم نبلغها حتى اليوم ، بل وربما لن نبلغ مثلها مطلقا ، لسبب وحيد وهي أننا بدأنا رحلة الشرك بالله مبكرا وقبل أن نصل لكثير من التقدم العلمي ، بل نستخدم قشور العلم التي وصلنا إليها لتدمير بعضنا البعض ، والأخطر أننا نتحدى الخالق العظيم في توحيده ونتحداه في ناموسه في خلقه ، رغم أننا كنفوس قد مررنا بحيوات متعددة في عصور سابقة ، ولدينا في نفوسنا ميراثا تاريخيا كبيرا ولكننا نتجاهله كثيرا ، وتلك ليست نظرية مطلقا ، فلدينا العديد من الآيات التي تؤكد مرورنا بتجارب تكرار الحياة بصور ومعطيات متعددة ، بل ولدينا في نفوسنا اليوم ذلك الشعور البديهي أننا نعرف كل شيء ولكننا لا نذكر تفاصيله ، ولن نتذكر هذه التفاصيل إلا عند لحظة خروج النفس من جسدنا الحالي للوفاة ، وهو ما ينبهنا له سبحانه بقوله لابن آدم عند وفاته .. {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }ق22 ، وتلك هي اللحظة الفارقة والتي يذهل ابن آدم عندها عندما يكتشف أنه كان أحمقا وغبيا وغافلا عما كان ربه يوجهه إليه في حياته ، ولكنه ظلم نفسه بنفسه ، وصدق فيه قول الحق سبحانه وتعالى … { … وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }العنكبوت40 .

" وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ " | " they were wronging  themselves "

أخيرا .. لابد أن نتوقف مرارا وتكرارا عند حركة النفوس وتاريخها الذي نجهله ، بل ونصدق خيالات وضلالات البشر ، ونتغافل عن حقيقة أن خروجنا من أجسادنا يوميا للنوم هو أهم وأخطر وابسط حركات النفس التي يجب أن نتابعها بصدق وأمانة ، لأنها السبيل الوحيد لإدراك كثير من حقائق النفس ، وأحوالها وأمراضها وعلاجها وأساليب السيطرة عليها ، خاصة وأن لدينا (424 آية قرآنية) في خلق ووصف وحركات وأمراض النفس وعلاجاتها ، ولكننا تجاهلناها تماما عبر أكثر من (1400 سنة) ، بل ولدينا مثال محلول لحركات وأمراض النفس بداية من الغيرة والحسد والحقد والحب ومرورا بالعشق والخيانة والقتل ثم الوفاء والكفر والشرك والإيمان وانتهاء بالمكر والشهوة والعفة والحماقة والظن والوقع في وسوسة الشيطان وكل ذلك في قصة نبي الله يوسف في السورة المسماة باسمه ، وهو ما سوف نستعرض بعضا منها لاحقا …

جمال عمر

 

عن الكاتب : جمال عمر

شاهد أيضاً

الاتزان الكوني والشفرة الإلهية (10) … بقلم : جمال عمر

توقفنا سابقا عند .. حقيقة أن الشفرة الإلهية هي شفرة معجزة وشاملة في السكون والحركة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *