جانا رمضان .. والله زمان … بقلم : جمال عمر

بعيدا عن حالات الهلع والفزع التي تبثها وسائل الإعلام والتواصل حول العالم ، وتوقعات نشوب الحروب في مختلف البقع حول العالم ، ومؤامرات الماسونية والصهيونية العالمية ، وبعيدا عن تصاعد التهديدات على الاتجاه الاستراتيجي الشمالي الغربي مع العدو الدائم والأزلي ، وبعيدا أسعار السلع والمواد الغذائية وياميش رمضان ومسلسلاته واعلانات برامج المقالب والفضائح المحرمة والملعونة شرعا ، وبعيدا عن صراعات كرة القدم وحالة التعصب المصطنعة والتي يغذيها حماقة وجهل البعض من الهوام والعوام ، ويثريها غابء وحماقة بعض من يديرون صناعة الرياضة من أجل مكاسبهم ولو جثث مشجعيت حمقى ومتخلفين نفسيا وعقليا ، وبعيدا أيضا عن أخبار الفنانين والفنانات والمشاهير ، وفضاحئهم التي تزكم الأنوف ، وبعيدا عن جدالات تطوير التعليم وعته الماميز ، والمصرات على تربية أجيال ضعيفة ومتخلفة وفاشلة لإصرارهن على تحمل المسئولية بدلا من أبناء وبنات ضحايا الماميز وفاقدين القدرة على تحمل المسئولية ، أخيرا .. بعيدا عن كل ما يشتت العقول ويلهي القلوب ، لابد أن نتوقف فنحن على أول عتبات رمضان .

وبالفعل .. هلت روائح رمضان منذ بزوغ هلال شهر رجب ، وعبر الشهرين الماضيين وكل يوم تزداد تلك الروائح الشجية انتشارا واقترابا ، وتحمل معها ذكريات رمضان عبر الزمن ، وما أجمل الأيام والليالي التي تسبق أي فرحة ، وما أروع ما تحمله تلك الأيام من أشواق ولهفة ، حيث تتوق النفوس وتسابق الزمن لتصل إلى ما تنتظره وترجو بلوغه ، وتلك حقيقة ، فالإحساس بالأيام التي تسبق رمضان أروع وأجمل بكثير ، وكذلك الأيام التي تسبق الأعياد ، ومثلها الأيام التي تسبق الزواج ، وولادة طفل ودخول المدارس ، وهكذا هي فطرة ابن آدم في تعامله مع تراتيب حركة حياته ، ولكن رمضان له عبق خاص ، رغم مشقة الصيام التي تكون شديدة على البعض وقاسية أحيانا على البعض ، وجميلة وسهلة محبوبة لدى البعض ، ولكن الجميع يعرفون عبق أيام رمضان ، خاصة في وطني أم الدنيا ، فمصر في رمضان شيء مختلف (حاجة تانية والسر في النفاصيل) ، كما يقول (الجسمي) أكرمه الله .

رمضان .. وما أدراك ما رمضان ، صيام وقرآن وصدقات ، وصفح وغفران ووجه بشوش ، وسلاسة في قضاء حوائج الناس ، وقلوب تغشاها الرحمة بغيرها ، وهكذا دوما أتخيله وأذكر أيامه ، وما دراك ما ذكريات رمضان في زمن مضى ، ولن أقول لك أنها كانت أياما رائعة وعشناها في الزمن الجميل ، لأن لكل زمان جماله ورونقه وعيوبه ومتاعبه ، ولكننا جميعا بني آدم نهوى البكاء والنحيب على اللبن المسكوب ، رغم أننا نحن من نسكبه في حينه بحماقاتنا ، ففي زمن مضى لم يكن هناك فضائيات ولا وجود للانترنت ولا حواسب ولا محمول ولا تابلت ولا تكنولوجيا ، وكان أعظم اختراعات التكنولوجيا ذلك الكاسيت ، الذي يدير شريطا لتسمع منه أصواتا مسجلة عليه ، وكان صاحب الكاسيت ذو البابين يتفاخر به ، ولو دخلت بيتا مصريا في الطبقة المتوسطة فسوف يقابلك في الصالة سفرة مستطيلة أو بيضاوية للطعام وحولها ستة أو ثمانية كراسي ، مركونة بعناية لأحد الأركان فهي لا تغادر ركنها إلا في العزومات ، وأمامها يتربع البوفيه أو النيش ، وهو معرض صغير لمقتنيات الأم من أدوات المائدة التي لا تخرج إلا للمناسبات .

وفي ركن مهيب سوف تجد الكونسول أو رف ملكي أو نص دولاب خشبي وقور ، يرقد فوقه أعظم اختراع بشري نسميه الراديو ، وهو كائن خشبي مربع من السنط المطعم ببعض المعادن ، وله مجموعة أزرار أوله للتشغيل ورفع الصوت والثاني لتغيير المحطات ، وربما ثالث صغير لتنعيم الصوت ، وبعض الأزرار السفلية التي تستخدم لتحديد محطات بعينها ، أو للتغيير ما بين الموجات اللاسلكية بأنواعها ، وهذا الوقور العظيم هو وسيلة تواصل كل العائلة مع العالم الخارجي ، فمنه سمعنا صوت أم كلثوم وعبد الوهاب وكارم محمود ووردة الجظائرية ونجاح سلام ومحمد قنديل ونجاة وصباح وفايزة أحمد والشاب عبد الحليم حافظ ومحمد فوزي وشكوكو وسيد الملاح ، وحفلات أضواء المدينة وسهرات أول خميس من كل شهر لأم كلثوم ، وحفلات شم النسيم لفريد وعبد الحليم وغيرهم الكثير ، ولكن أجمل وأشهر ما كان هذا الوقور ينقله لنا هو ابداعات رمضان بداية من تواشيح النقشبندي وآذان المغرب وشعائر صلاة الفجر وصوت جد المشايخ (محمد رفعت) ، وفوازير رمضان وألف ليلة وليلة وأحسن القصص بعد الثالثة فجرا .

وعن رمضان في شوارع مصر فحدث ولا حرج ، وكان أشهر معالم شوارع مصر هو (فرن الكنافة) ، الذي يبنيه صاحبه قبل رمضان بأيام ويهدمه بعد العيد مباشرة ، وتلك هي وسيلة الحصول على الكنافة البلدي التي انقرضت على أيدي الماكينات الحديثة في المدن ، ولكن هذا الفرن ما زال يقام صرحه في بعض القرى والأحياء الشعبية ، وأروع ما تراه حتى يومنا هذا خاصة في الأحياء الشعبية هو شراء وصناعة وتركيب زينة رمضان في شوارعنا وحاراتنا وأزقتنا وعلى جدران المنازل ، وفوانيس رمضان التي تنفجر صناعتها وبيعها في العتبة والسيدة زينب والحسين وأحياء مصر القديمة ، وما أدراك ما مصر العتيقة ، والتي ما زالت شوارعها وبيوتها تحيا رمضان مثلما كان منذ زمن بعيد ، وما زاد عليها سوى صوت مركبة جديدة يسمونها التوكتوك ، وبعض محلات المحمول والاكسسوارات الغريبة والعجيبة ، ولكنك سوف تجد شوارع أحيائنا مليئة بكل ألوان الخيرات والمأكولات والخزعبلات أيضا ، فمصر في رمضان شيئا أروع من كل خيال ، ويكفي أن نعرف أن القاهرة يدخلها في رمضان أكثر من خمسة ملايين عربي ومسلم من مختلف دول العالم العربي والمسلم ، فقط من أجل قضاء رمضان أو أياما منه في قارهة المعز حفظها الله وأعلاها وثبت ثراها .

رمضان في مصر حاجة تانية … ليست كلمات أغنية بقدر ما هي حقيقة بسيطة وخالدة بإذن الله ، لأن مصر ليست بزينة شوارعها ولا بالمعروض من بضائعها وابداعاتها وعجائبها ، ولكن مصر بشعبها ، وبالأصالة في دماء أهلها ، ولن أكون كاذبا لو قلت أنك تشم عبق التاريخ في تعاملاتك مع أي شخص في شوارعها حتى سائق التوكتوك وفتوات وبلطجية حواري وأزقة كفر شمندر ، وهي أصالة لن تجدها في أي مكان في العالم ، خاصة في رمضان ، لدرجة أنك لودخلت ركنا غريبا من حواري الفتوات والبلطجية المسجلين ، بطريق الخطأ ووجدوك مسكينا تحتاج للمساعدة ، فسوف يتسابقون لمساعدتك ولو بالمال ، ولكن احذر فقد يكون المال تم تحصيله عنوة من شخص آخر كإتاوة ، وليس عجيبا أن تنخفض معدلات جميع الجرائم في رمضان في مصر ، فحتى المجرمون في مصر يحاولون الاستقامة في رمضان ، وما يثيرهم ويضطرهم لكسر حرمة رمضان هو تعدي البعض على قيم رمضان بحماقة ، مثل تنطع البعض في الطرقات ، أو تعمد بعض الفتيات إثارة شهوات الصائمون بعري ملابسهن أو تصرفاتهن الجارحة في رمضان ، وهو غير منتشر وسرعان ما تتم السيطرة عليه بتدخل الكبار في الطرقات .

رمضان في مصر حاجة تانية .. ليست ترنيمات نعشقها ، بقدر ما تمس في نفوسنا أشجانا وحنينا للماضي ، ولمة العائلات وتفاعلاتها التي كانت تربي أجيالا متكاملة الفنوس ، تعرف معنى العائلة والجد والجدة والعم والخال والعمة والخالة ، وأثرهم في تربية أبناء وبنات العائلاة الواحدة ، والتي حرم منها ابناء أجيال مبتسرة مقطوعة الأصل ، تربية الحيطان الصماء والدادة ومربية الحضانة والميس والمستر ، وفي النهاية نتاج فوضى تربية الأصدقاء والأصحاب والأصدقاء والتيك توك واليوتيوب والكواي وصانعي المحتوى ، ولذلك فرمضان في مصر يصلح بعضا مما نفسده بفوضى التربية الحديثة ، لأنه يعلم الأجيال أن لنا أصول وتقاليد حتى ولو كانت موسمية ، ففي رمضان كثيرا من أبنائنا تجدهم في شوارعنا قبل اللإطار بلحظات يوزعون ما يفطر به الصائم ، ولا تستهن بتأثير ذلك في نفوس الأبناء ، فهو يثري في نفوسهم القدرة على العطاء ، ويقوي روابط الدين والدم والمواطنة ، والولاء والانتماء لدين ووطن ، حتى ولو كان ما يعطونه قليلا وليس كثيرا مثلما تجده في دول الخليج ، ولكنه في مصر له طعم آخر ورونق آخر ، فهي مصر يا سادة ، كنانة الله في أرضه والمحروسة بعينه سبحانه ، وصاحبة الرباط إلى يوم القيامة .

رمضان في مصر حاجة تانية .. ، أذكرها جيدا في وحدات جيشنا العامر بذكر الله ، في ربوع مصر وصحرائها وعلى حدودها ، خاصة في ساعة الإفطار مع جنودنا البواسل لسنوات طويلة ، وما أروع الإفطار بين الجنود ، حيث لا تعرف الفارق بين الجندي والضابط وضابط الصف ، وما أروع الصلاة في صدر الصحراء ليلا أو نهارا ، حيث تشعر أن الجبال تصلي معك وتتغنى معك بتراتيل القرآن ليلا ونهارا ، وحينها تعرف حقيقة وجلال قول الله تعالى لنبيه داوود .. {… يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ }سبأ10 ، تلك أحاسيس ومشاعر لا يعرفها إلا من اعتاد عليها ، خاصة في سيناء ، تلك الأرض التي تعشق المصريين ، ويعشقها كل من خدم فيها بعضا من سنوات عمره ، ولا أعرف مكانا يبكي القلب والعين لفراقه سوة مكانين على الأرض ، الأول هو المدينة المنورة ، والتي تشعر أن ترابها يحتضن ضيوفها ويحزن لفراقهم ، والمكان الثاني هو رمال وجبال سيناء المقدسة ، حيث تبكي العين والقلب عند فراقها دون أن تدرك لماذا ، وما أروعها في رمضان حيث يشعر الإنسان فيها بجلال وحنان وأمان الأرض والرمال والجبال والوديان ، فرمضان في مصر .. حاجة تانية .

رمضان في مصر حاجة تانية .. لأنه شهر تتزايد فيه أواصر المودة ، ويكثر فيه الصفح والعفو والإصلاح بين الناس ، وتتقارب فيه الجيران خاصة في الأحياء الشعبية بالقاهرة والمدن الكبيرة ، ليجربوا ما تنعم به عامة المصريين في المدن والقرى خارج القاهرة والمدن الكبرى طوال العام ، وهو شهر تكثر فيه الصدقات والزكاة تقربا لله تعالى ، وترق فيه قلوب العباد على بعضهم البعض ، حتى ولو كان تخلله بعض المشاحنات والمشاجرات التي تنتهي غالبا بتذكرة بأن رمضان كريم ، والله أعلى وأكرم ، ولأنه رمضان فلابد أن نتجنب الوقوع في ذنوب وخطايا لا داعي لها بحجة أننا نفعل مثلما يفعل الناس ، وأولها التمتع كذبا بمسلسلات البلطجة وإثارة الشهوات والغرائز ، وبرامج الفضائح وكشف الأسرار الملعونة والمحرمة شرعا ، وبرامج المقالب السخيفة والمتفق عليها مسبقا ويدفع فيها الملايين بحجة التسلية وهي توقظ في أطفالنا عادات تقتل فيهم المروءة والنخوة والحياء والشهامة ، وتثري فيهم الندالة والحقارة والتفاهة بحجة الكوميديا والهزل .

أخيرا .. فمن شاء أن يستقيم صيامه ويقترب من ربه ، فليتجاهل موائد إبليس عبر الفضائيات خاصة وأنه لابد من مشاركته لأطفاله وأهل بيته ، وليتق كل زوج وزوجة الله في شريك حياته ، ويكفوا عن تتبع عورات وأخطاء بعضهم البعض ، فهو أمر الله به ونهى عنه بقوله { .. ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا } ، لأن الغيبة والتجسس من مفسدات الصيام ، ولنكف ألسنتنا عن قول السوء .. {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً }النساء148 . ولنتذكر أقول الله تعالى في الصيام .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة183 ، فقوله تعالى لعلكم تتقون معناها الوحيد والقاطع هو أن الله يخاطب عباده بقوله ، لعلكم لو امتنعتم عن الحلال في الصيام ، تستحون أن تفعلوا الحرام وأنتم صياما ، ولعلكم لو تعودتم أن لا تفعلوا الحرام شهرا كاملا ، أن تستمروا بعد رمضان ممتنعين عن الحرام ، ذلك مفهوم (لعلكم تتقون) الذي فرض الله من أجله الصيام على بني آدم منذ بدء الخليقة ، ولعلنا نستطيع أن نثبت لربنا أننا أهل خير وبر وصلاح واستقامة ، ومهما أخطأنا فلنا رب يغفر الذنوب ، ويكافيء عبد التائب بتكفير ذنوبه ، بل وتبديل ذنوبه إلى حسنات .. لقوله تعالى .. {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }الفرقان70 ، والله غالب على أمرة ولكن أكثر الناس لا يعلمون …

جمال عمر

عن الكاتب : جمال عمر

شاهد أيضاً

هل أنت .. من خراف القطيع ؟؟ …. بقلم : جمال عمر

كثير من الناس أو قل الغالبية العظمى يعشق أن يكون فردا في القطيع ، رغم …

تعليق واحد

  1. جزاكم الله خير الجزاء و بارك فيكم و في مصر حفظها الله و سلمها من كل شر الاعدا. رمضان كريم عليكم و على امة الإسلام. كل عام و انتم بالف خير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *