السعادة في رمضان .. (2) ………….. بقلم : جمال عمر

كل عام وكل البشر على الآرض بكل الخير والصحة والسعادة ، وبقدر ما تتزايد فرحتنا برمضان ونفحاته وعبقه المسيطر على آفاق البشرية ، بقدر ما تتزايد الشجون من سرعة أيامه ، حيث تجاوزنا منتصف الشهر ، ونشعر أننا نهرول نحو أيام أعياد مباركات على الجميع مسلمين ومسيحيين في أرجاء المعمورة ، أعاد الله أيام رمضان علينا بالأمن والسلام واليمن البركات ، ولكن سامحوني فالنفس لا تستطيع أن تتجاهل أشجانها لتجاوز أيام رمضان لما بعد منتصف الشهر ، وهرولة ما تبقى من الشهر الكريم راحلا بلا هوادة ، فرمضان كما نعرفه دوما شهر بركات وصدقات ونفحات ، وتراحم وتقارب وتواصل ولقاءات ، وهذا العام تحديدا يلتقي في رمضان كل تراحيل الشتاء وبشائر الربيع وبعضا من نسمات الصيف ، ولا ندعي خيالا فحقا في رمضان .. تسلسل الشياطين ، وتغل أيدي المتعاملين معهم والسحرة ويصابون بالعجز والعطلة ، فتغرد النفوس قبل الطيور طربا لروعة الأمان الكوني الذي لا يستطيع إنكاره مخلوق ، وشهر رمضان هو بحق يمثل للمسلمين التحدي الأكبر ، كأهم وأكبر امتحان  للضمير الإنساني والإرادة البشرية في إخلاص العمل والصيام والقيام ، والحرص على فعل الخيرات ، وتنقية النفس من أخطائها الكثيرة التي علقت بها خلال عام سابق .

وفضلا عن رائحة أو بمعنى أدق “عبق رمضان” التي يملأ الشوارع والحواري والدروب والبيوت منذ الأسبوع الأخير من شعبان وحتى نهاية رمضان ، فعادة ما يحمل رمضان معه ذكريات لما كانت عليه أيام رمضان فيما مضى من السنوات والعقود ، وعادة ما تحن النفوس لعبق ذكرياته من الماضي ، والتي تحمل في طياتها أشجانا لا تخلو من بعض الأحزان ، وأشواق لنفوس اعتدنا أنسها واليوم قد فارقتنا ، خاصة عندما تغشانا ذكريات الأيام الأخيرة من رمضان ، والسعي الدءوب لإدراك ليلة القدر عاما بعد عام ، والتي يرفض المسلمون تصحيح اختفالهم بها ، حيث ما زالوا يحتفلون في ليلة السادس والعشرين ، متجاهلين قرار الله بأن ليلة اليوم تأتي بعد نهاره (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار) ، منتقلين سريعا إلى ذكريات احتفالات البيوت بكحك العيد ، والتي مازالت طقوسا مقدسة في معظم بيوت مصر الأصيلة ، بعيدا عن المتفرنجين بسذاجة وخيابة ، والملقبين بأهل (إيجيبت)، وأجيال الكمبوندات والتجمع ، الذين يتنافسون في ماركات ومحلات وأسعار كحك العيد ، فهم لا يعرفون أن سهرات صناعة كحك العيد في ختام رمضان هو مهرجان تنمية المهارات الشخصية لكل الأطفال ، وأحيانا يكون المهرجان إيذانا بانتقال بعض الأبناء من مرحلة الطفولة إلى مراحل الصبا والشباب .

فمهرجان كحك العيد ، هو تلك المناسبة التي تنتظرها البيوت بنساءها وأطفالها طوال السنة ، حيث تختتم به الأيام الأخيرة من شهر رمضان ، فتستهل البيوت الأسبوع الأخير بسهرات تبدأ من بعد الإفطار وحتى آذان الفجر ، وتتزاحم الصيجان السوداء ، سواء المملوكة للعائلة أو المؤجرة من فرن الفينو ، وتكثر المشاجرات بين الأبناء سواءا على الاشتراك في الصناعة أو على أدوار رحلات تسوية الصيجان في الفرن ، وتتزعم الأم الكبيرة عمليات الإشراف والتنظيم لصناعة العجين ، مع التدخل العاجل في المهام الأهم ، ولكل نوع من الكحك والبسكوت والبيتي فور والفايش والمنين عجينته الخاصة ، ناهيك عن أنواع البسكوت السادة أو المركبة أو بجوز الهند ، والناعم والطري أو الخشن للخزين ، وكذلك أنواع الكحك الكلاسيكي أو بالملبن أو بالعجوة أو بجوز الهند أو بالمكسرات ، وحدث ولا حرج عن نوعيات البيتي الفور ، وهو ما ظهر فيما بعد انتهاء الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي ، ولا تحدثني عن الخمسينات من ذلك القرن ، فتلك أيام يراها أبناؤنا تنتمي للعصر الحجري وما قبل التاريخ ، فالتاريخ لديهم يبدأ كما تقول حفيدتي ، في عيد ميلاد “سبونشي بوب” ، وكان ولدي يراه يبدأ في عيد ميلاد “بوجي وطمطم” ، وكنا نراه من قبلهم في صوت شيخنا محمد رفعت في الراديو ، وبرنامج أحسن القصص في سحور رمضان .

وبعيدا عن التحيز والعشق لرمضان ، يجب أن لا نتجاهل أن رمضان علميا هو موسم الرضا والسعادة السنوي ، فهو موسم الهدوء النفسي الذي يسود أيامه ولياليه ،وذلك كنيجة مباشرة لارتفاع معدلات العطاء دون انتظار المقابل بين الناس ، وهو أكبر أسباب كثرة إفراز هرمونات السعادة (السيروتونين – الأوكسيتوسين) في أجساد كل من يصوم طاعة وخضوعا لله ، ويتصدق رغبة في رضا الله ، متزامنا ذلك مع انخفاض في معدلات المتعة الناتجة عن الشهوات (الأتدروفين – الدوبامين) ، ومتزامنا أيضا مع العودة التدريجية لخلق الحياء ، حيث تعتاد النفس الخجل من ارتكاب المحرمات وهي صائمة ، لأن من لا يستحي من ارتكاب المحرمات وهو صائم فلا فائدة لصومه ، ويصبح كما يقول رسول الله ، (رب صائما حظه من صيامه الجوع والعطش) ، ولن يشعر بالسعادة مطلقا مع حرمانه من المتع ، فيكون رمضان وبالا عليه ، ومن لا يستحي أن يفعل الحرام في رمضان ، لابد وأن يكون سيء الخلق فظا في التعامل مع غيره بحجة الصيام ، نعم قد تعاني بعض النفوس نتيجة الصيام عدم اتزان في هرمونات بعينها ، خاصة لمن اعتادوا على مشروبات بعيتها كالقهوة والشاي ، ولكن كل ذلك  يعود لاتزانه في خلال أيام قليلة من بداية الشهر .

ولن يكون الإنسان سعيدا أبدا ، إن لم يجد الطمأنينة والسكون والرضا في بيته ، ولكن السعادة في البيوت لا تأتيك وانت تنتظرها ، بل إن سعادة النفوس والبيوت يصنعها أهل البيوت ، ويتحمل مسئوليتها المتدرجة كل من يحيا في البيت من الأكبر للأصغر ، فالأب الفاشل في صناعة السعادة هو السبب الرئيسي لنقص السعادة في بيته وكذلك الأم ، ولاشك أننا في زمننا المعاصر أصبحنا ضحايا لأخطاء كثيرة عبر نشأتنا ، مما يسبب كثيرا من مشكلات وربما معضلات بيننا وبين أهل بيوتنا ، لأننا نسينا أو تناسينا أنواع محددة من الأخلاق ، والتي لابد وأ تعود مع رمضان ، وأول هذه الأخلاق ، هو جبر الخواطر التي سقطت سهوا في كثير من بيوتنا ، فلا الرجل علمته أمه معنى جبر الخواطر ، وبالتالي هو لا يعرف سوى الانتقاد والتربص بزوجته وربما أولاده ، ولا الزوجة علمتها أمها معنى جبر الخواطر ، وحسن التغافل ، فهي متربصة مراقبة متابعة لزوجها وأولادها ، كأنها أنثى العنكبوت تنسج خيوط الإيقاع بالمخطئين في البيت ، وعلى رأسهم ذلك المخلوق المتنطع بذكوريته دون وجه حق ، فقط لأن جبر الخواطر والذي هو في أبسط صورة (مراضاة الآخرين) لم يعد له مكانا في النفوس ، وحسن التغافل والذي نعرفه بمقولة (تكبر دماغك) قد سقط من قاموس الأخلاق الأسرية .

ولابد نقف إجلالا وتعظيما لمالك الملك وفاطر الخلق وهو يعلمنا أهم دعائم الحفاظ على استقرار البيوت ، خاصة عند المنعطفات والمشاكل والمواقف الحادة في البيوت ، والتي تكون سببا في تفكك الأسر ، وهدم البيوت وتشريد الكبار قبل الأطفال ، حيث يقول سبحانه .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }التغابن14، وهنا يحذرنا سبحانه بأننا قد نكتشف أن الزوجة والأولاد قد أصبحوا أعداء في مواقف معينة ومتكررة في حركة الحياة ، فيوصينا الله بالحذر منهم ، ثم يشرح  لنا سبحانه ماذا نحن فاعلون حينها ، وحينها هم في موقف العداء ، فبعد الحذر منهم ، أولا .. لابد أن نعفوا .. نتنازل ونترفع عن عقوبة المخطيء مراعاة للود والرحمة بيننا ، وثانيا .. فلابد أن نصفح .. بمعنى أن نتناسى تماما ما حدث وكأنه لم يحدث (نفتح صفحة جديدة) ، وثالثا .. أن نغفر للمخطيء خطأه .. فلا نذكر الخطأ بعدها أبدا ، ولا نعايره به مطلقا ، ولكن لماذا نفعل هذا ونتحمل أعباءه ، وهنا يعدك ربك سبحانه أنك لو فعلت هذا فسوف يكون غفورا رحيما لك في حسابك ، وهنا تأكيدا لقانون الله في محاسبة عباده ، وشرطيه للمغفرة لعباده المذكورين في سورة النور بقوله تعالى .. { .. وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }النور22 ، فالله قد جعل غفرانه لذنوب عباده مشروطا بعفوهم وصفحهم عمن يخطيء في حقهم ، فما بالنا بمن هم أهلينا وذوينا .

أخيرا .. لا شك  .. أن رمضان هو شهر السعادة ، لأننا نتراحم فيه كما لم نتراحم من قبله ، وفيه تكثر الزكاة والصدقات ، وتفتح فيه البيوت لضيوفها ، وتطعم المساكين وتسد حاجة الفقراء ، وتقضي حاجات الناس وتعالج مرضاهم ، وترحم فقراءهم ، ويعان ضعافهم ، ولاشك أننا مختلفون وأن الله يرزق كل إنسان بواجباته ومهمته في الدنيا على قدر معطياته النفسية والشخصية التي خلقها الله فيه ، وهو ما يسمح لنا أن نقول مثلا .. ، أن لكل منا أكواده المختلفة في تفاعلاته النفسية مع حركة الحياة ، وهو ببساطة ما يعطي للنفوس مظاهر ومعان الاختلاف ، فيمنح الحياة رونقا جميلا مبنيا على الاختلاف والتباين والتوافق والتزامن ، بل وأحيانا التضاد والصدام والشجار ثم التوافق واستكمال حركة الحياة ، فكل ما يحدث في حركة الحياة ليس إلا سيمفونية ربانية مقدسة تعزفها أوركسترا مخلوقات الله على أوتار الزمن ، لتردد أرق وأعذب وأشجى مقاطع السيمفونية الربانية في شهر النفحات الربانية “رمضان”، فتستمتع ثم تسعد وتطرب لها النفوس المؤمنة والنفوس التقية الشجية ، فكل عام وكل البشر بكل الخير والصحة والسعادة ، وأعاد الله علينا جميعا أيامه باليمن والبركات …

جمال عمر

عن الكاتب : جمال عمر

شاهد أيضاً

هل أنت .. من خراف القطيع ؟؟ …. بقلم : جمال عمر

كثير من الناس أو قل الغالبية العظمى يعشق أن يكون فردا في القطيع ، رغم …

تعليق واحد

  1. امين يارب العالمين وإياكم بالدعاء
    كل رمضان انتم و كل مسلمين العالمين بالف خير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *