السعادة في رمضان .. (1) ….. بقلم : جمال عمر

كل عام وكل البشر بكل الخير والصحة والسعادة ، فشهر رمضان .. له بركات ونفحات خاصة ، وهو اعتقاد ويقين كل المسلمين في شهرهم المعظم ، والغريب أن رمضان ومنذ بدايته وكأنه في سباق مع الزمن .. حتى شارف على الانتصاف ، وهو ما أرق في النفس سكينتها التي اعتادت أن تغشى القلب بعبق ونسائم رمضان ، فقد أزعجها تسارع أيامه ، وكأن كل يوم يمر يزيد في النفس مشاعر انسلاخ الروح من الجسد ، وهي مشاعر متناقضة كعادة البشر ، ما بين الفرحة والحزن ، والراحة والألم ، ولكنه خليط من مشاعر لا تتكرر في النفس إلا في رمضان ، ولا أدعي أنني قد استطيع أن أقول في روعة وفضل رمضان ما لم يقله أحد من قبلي ، ولكن رمضان له مواصفات وصفات شديدة الخصوصية ، ليس لدى المسلمين فقط ، ولكنني لاحظت ذلك كثيرا حتى في بلاد غير مسلمة ، فرمضان تشعر أن له نغما خاصا يدندنه الهواء والماء والشجر والحجر بمصاحبة سيمفونية الأيام ، فيردده الزمن في أسماع الأحياء لعلهم يفقهون ، أو لعلهم يدركون روعة السيمفونية التي يبدأ عزفها قبل رمضان يأيام ، ويتصاعد إيقاعها (ريتمها) مع أيام الشهر ، حتى تصل لقمة اتفعالاتها وقوتها في منتصف الشهر ، ثم تبدأ في الانسحاب حتى تختم بتكبيرات المسلمين في صلاة العيد .

ولرمضان لون خاص ، عبق خاص ، طعم خاص ، ورائحة خاصة ، أو هكذا أشعر برمضان منذ كنت طفلا يصر على صيام الشهر كاملا ، وهو لا يدري كثيرا سوى أن الصيام يزيد من إحساس النفس بهذا العبق السحري ، خاصة وأن الأجواء في زمننا الماضي لم يكن يلوثها الفضائيات ولا هلع الإعلانات ولا المحمول ولا شبكات التواصل ولا التيك توك ولا اليوتيوب ، فلم يكن حول ابن آدم ما يشتت مشاعره ويفقده الإحساس حتى بنفسه مثلما هو حادث اليوم ، ويتحكم في مشاعر ومفاهيم بل وحتى قدرات البشر على التقارب والتفاهم والتراحم ، فقد كان صوت الراديو (المذياع) هو الوسيلة الوحيدة التي تربط البشر ، بدنيا أخرى مخالفة لواقع حياتهم ، إنه عالم الراديو .. كم كان عالما جميلا ورائعا ، تركب فيه سحابات خيالك وتطلق لها العنان لترسم لكل حرف وكلمة تسمعها عالمها الخاص بألوانها وتشكيلاتها والأهم تأثيراتها في النفس ، وأروع ما كان فيه ، أنه كان عالما أمينا على المستمع ، لا يستهدف خطفه ولا تدمير قيمه ومبادئه وأخلاقه ودينه ، مثل الجارحي وعبدة موتة والعتاولة وعرب وفهد وحكيم وغيرهم وكلها خيابات ومهازل مكررة من عفن مخرجات الفن الفاسد أو قل الفاسد بحماقة وتعمد .

ولم يكن لدى المصريين سوى ثلاثة محطات للراديو تصدر من مصر ، أولها المحطة الرئيسية (هنا القاهرة) ، ويسمونها البرنامج العام ، ومحطة صوت العرب والتي تتبادل الإرسال مع صوت فلسطين مرتين يوميا ، ثم محطة الشقاوة والحركة وكل جديد .. محطة الشرق الأوسط ، ثم انضم لهم إذاعة القرآن الكريم ، التي أنشأها الغفور له جمال عبد الناصر ، وكان المعتاد أن يتوقف ارسال محطات الإذاعة ليلا ، ولكن في رمضان لا يغلق البرنامج العام إرساله إلا بعد صلاة الفجر ولمده ساعتين ، وذلك بخلاف باقي السنة لجميع المحطات ، حيث من المعتاد أن تغلق المحطة الريسية قبل منتصف الليل ، وأحيانا قد تتجاوز لساعة أو اثنين لظروف خاصة مثل حفلة كوكب الشرق “أم كلثوم” في أول خميس من كل شهر ، أو إذاعة حفل لأضواء المدينة والذي كان مخططا لأربعة مرات سنويا ، أو لنقل السهرة السنوية لاحتفال عيد الربيع ، ليلة شم النسيم ، مع عبد الحليم أو فريد أو وردة ، وما أدراك ما وردة الجزائرية .

وفي رمضان .. تتسابق المحطات لتقدم وجبات جميلة خفيفة ودسمة كذللك للمستمع المصري والعربي ، ويكون الفائز دوما هو البرنامج العام ومعه إذاعة القرآن الكريم ، وكان لبرامج رمضان وقع خاص على الأسماع والنفوس ، فإلى جانب الفقرات والبرامج الصباحية المعتادة ، والذي يبدأ في السادسة بالقرآن الكريم ، ثم يعقبه توشيح ديني أو أغنية مثل “قل ادعو الله إن يمسسك ضر ، ووجه ناظريك إلى السماء” والتي تغنيها شادية وتأليف زكي الطويل وألحان إبنه كمال الطويل ، وتظل أغاني الصباح خالدة لا تنساها النفوس ولا الأسماع ، مثل “يا صباح الخير ياللي معانا ، الكروان غنى وصحانا” لأم كلثوم ، وهي كلمات بيرم التونسي وتلحين محمد القصبجي ، ثم سريعا لابد من البرنامج الخدمي “بالسلامة” وهو برنامج مروري بالدرجة الأولى ، ثم فاصل من الأغاني الخفيفة يعقبه برنامج “كلمتين وبس” لفؤاد المهندس ، وهو برنامج خفيف ناقد لسلبيات المجتمع في إطار كوميدي ، ثم فاصل من الأغنيات الخفيفة مثل “صبح يا جميل يا جميل صبح” لمحمد قنديل صاحب الصوت الماسي ، ويال حظك العطر لو غناك محمد قنديل “سحب رمشه ورد الباب .. كحيل الاهداب” ، أو غنتنا المطربة أحلام “يا نسمة الصباح يا معطرة الجناح” ، أو غنتنا المطربة نجاح سلام “صبح الصباح محلاه” ، ثم يسمعنا البرنامج العام برنامج “همسة عتاب” ، وتتوالى البرامج والأغنيات الصباحية ، مرورا بالبرنامج التاريخي “إلى ربات البيوت” لصفية المهندس ، ثم برامج الأطفال مع أبلة فضيلة ، لتبدأ برامج الضحى والظهيرة ، مع الحرص على إذاعة الآذان في موعده مسبوقا بما تيسر من القرآن الكريم .

وكل ما سبق .. هي برامج معتادة طوال العام ، إلا أن رمضان يبدأ من الأسبوع الأخير من شهر شعبان السابق له ، حيث تتوالى علينا أصوات المطربين المرحبين برمضان ، مثل عبد العزيز محمود وهو يغني “مرحب شهر الصوم مرحب” ، والثلاثي المرح بأغنية “أهو جه يا ولاد” ، وتتصاعد أغاني الترحيب برمضان حتى مرور الأسابيع الثلاثة الأولى منه ، فتسمع محمد عبد المطلب وهو يغني “رمضان جانا وفرحنابه” ، ثم أشهر أغان رمضان بصوت أحمد عبد القادر “وحوي يا وحوي” ، وأهلا رمضان لمحمد فوزي ، وشهر الصيام لنجاة ، وافرحوا يا بنات للثلاثي المرح ، ثم تبدأ أغاني وداع رمضان في الأسبوع الأخير منه وأشهرها أغنية محمد رشدي “يا بركة رمضان خليكي” ، والأغنية الخالدة “والله لسة بدري والله يا شهر الصيام” .

ولا تزال ذكريات اليوم الرمضاني مرتبطة بتواشيح النقشبندي “مولاي يا مولاي ، إني باباك يا مولاي” ، وآذان المغرب بصوت الشيخ محمد رفعت ، وفوازير الإذاعة بصوت آمال فهمي ومشاهير المذيعين والفنانين ، ثم المسلسل الرمضاني من بعدها ، ثم حلقة المسلسل التاريخي ألف ليلة وليلة ، وتختتم الليلة بـ “أحسن القصص” ، والذي يسبق إذاعة صلاة الفجر من مسجد الحسين أو السيدة زينب أو السيدة نفيسة ، فقد كانت أياما مختلفة ، يعتمد فيها الإنسان على أذنيه كمصدر رئيسي للمعلومة والمتعة ، وبالرغم من تخيل البعض أنها كانت فقيرة لكم التكنولوجيا والمسليات التي نعرفها اليوم ، إلا أنها كانت أكثر سعادة ، ليس لأنها ذكريات وتحمل الحنين للماضي ، ولكنها حقيقة علمية ، وذلك أن اعتماد الإنسان على حاسة السمع ومشاركة غيره في الاستماع ومناقشة ما يسمعونه ، واستخدام مطلق لخيال المستمعين ، وهو ما يساعد كثيرا على تدفق هرمونات السعادة (السيروتونين – الأوكسيتوسين) ، بجانب هرمونات المتعة المعتادة (الدوبامين – الأندروفين) ، بخلاف كم التشتت الذهني والحسي الحادث حاليا ، نتيجة الفضائيات والمحمول والمنصات وتسارع الأخبار والحوادث ، وهو ما يفقد الإنسان قدرته على بلوغ السعادة رغم ما هو متاح له من وسائل الاستمتاع ، فالمتعة لا تستطيع أبدا أن تحدث السعادة في النفس .

وذلك أن السعادة كما اكتشف العلماء حديثا لا تتدفق هرموناتها (السيروتونين – الأوكسيتوسين) في الجسم إلا بنجاح النفس وتأكدها من العطاء والمشاركة للغير ، والكد والتعب أو بذل ما هو غالي من أجل الآخرين ، بينما هرمونات المتعة (الأتدروفين – الدوبامين) تفرز كلما تحصل الإنسان على متعة يحبها كالطعام والشراب والشهوة والانطلاق والسفر ، وأعلى قيم السعادة تحدث فقط عندما تتحول المتعة لسعادة ، بأن يستمتع كل طرف وهو حريص على متعة غيره ، وهو تحديدا ما يحدث بين الأزواج المحبين في علاقاتهم الحميمية ، وكذلك تجد السعادة متدفقة في جسد الوالدين الكادحين على بيتهما وأولادهما مهما تعبوا وعانوا من المشقة ، وهو ما يمنح الأم القدرة على السعي على أبناءها وحيدة متحملة كل مشاق الحياة وهي قريرة العين ، وفي قمة السعادة لنجاحها في ذلك .

كذلك رمضان هو شهر السعادة ، لأنك في رمضان تكثر من الصدقات ، التي تفتح البيوت وتطعم المساكين وتسد فاقة الفقراء ، وتقضي حاجات الناس وتعالج مرضاهم ، وترحم فقراءهم ، وتعين ضعافهم ، ولا شك أن لكل منا خصوصياته النفسية ، فبعضنا يسعده معاونة الناس لقضاء حاجاتهم ، وبعضنا يسعده صدقات من ماله ، وآخر صدقاته كلمات طيبة لا يملك سواها ، ولكن أعلى درجات الصدقة هي في عيون باتت تحرس في سبيل الله في نهار وليال رمضان ، فهؤلاء يتصدقون بعمرهم وأجمل سنوات عمرهم من أجل أن يحيا الغالبية من البشر في أمان وسلام ، وبعدهم من ينقلون العلم ويعلمون غيرهم ، ثم الكادحين للإعمار من العمال والفلاحين في مصانعهم وحقولهم ، ولاشك أننا مختلفون وأن الله يرزق كل إنسان بواجباته ومهمته في الدنيا على قدر معطياته النفسية والشخصية التي خلقها الله فيه ، وهو ما يسمح لنا أن نقول مثلا .. ، أن لكل منا أكواده المختلفة في تفاعلاته النفسية مع حركة الحياة ، وهو ببساطة ما يعطي للنفوس مظاهر ومعان الاختلاف ، فيمنح الحياة رونقا جميلا مبنيا على الاختلاف والتباين والتوافق والتزامن ، بل وأحيانا التضاد والصدام والشجار ثم التوافق واستكمال حركة الحياة ، فكل ما يحدث في حركة الحياة ليس إلا سيمفونية ربانية مقدسة تعزفها أوركسترا مخلوقات الله على أوتار الزمن ، لتردد أرق وأعذب وأشجى مقاطع السيمفونية الربانية في شهر النفحات الربانية “رمضان”، فتستمتع ثم تسعد وتطرب لها النفوس المؤمنة والنفوس التقية الشجية ، فكل عام وكل البشر بكل الخير والصحة والسعادة ، وأعاد الله علينا جميعا أيامه باليمن والبركات …

أخيرا .. السعادة في رمضان هي إحساس سحري يسري في النفوس التي تحيا هذا الشهر مستشعرة جلاله وعبقه في أنفاس البيوت والحواري والشوارع ، وهمسات ولمحات وبسمات الحيوان والشجر والبشر والحجر ، في صدقة تخرجها سرا لوجه الله ، وفي إصلاح بين الناس بالمعروف والخير ، وفي إفطار مسكين أو يتيم أو سائل أو ابن سبيل وفي أول ما تكسر به صيامك وقلبك قبل لسانك يدعو الله بما شئت ، وفي ركعتي الفجر بخشوع للواحد القهار ، وكل ذلك بعيدا عن أبالسة الإنس رواد برامج المقالب والفضائح وكشف الأسرار ، وما زلت أسأل نفسي ، ألا يشعر هؤلاء بحجم الكارثة التي يعيشونها ، وهم تلعنهم ملائكة السماء والأرض ، لأنهم يبدعون في فضح أسرار البشر ، ألم يمر عليهم عقاب أم أو نهي أب ، أم جميعهم لم يعرفوا للتربية زمنا ولا معنى ، ولا لوم عليهم فهم أهل الفن والاعلام ، وقمة نجاحهم في الدنيا في احتراف الكذب على أنفسهم وعلى غيرهم تحت مسميات الفن والإبداع ، وسامحوني فلن أكذب أو أتجمل في رمضان ، هدانا الله لما يحبه ويرضاه ، وجعل رمضان خيرا لنا وفينا وعلينا ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون …

جمال عمر

عن الكاتب : جمال عمر

شاهد أيضاً

هل أنت .. من خراف القطيع ؟؟ …. بقلم : جمال عمر

كثير من الناس أو قل الغالبية العظمى يعشق أن يكون فردا في القطيع ، رغم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *